القائمة الرئيسية

الصفحات

هل ستغير التطبيقات طريقة تفكيرنا في الحب والخيال؟ | ملخص كتاب جيل التطيبقات

في عصر يتسم بالتطور التكنولوجي السريع، يشهد العالم تغيرات جذرية في كيفية تعبير الشباب عن إبداعهم وفهمهم للعالم من حولهم. لقد أصبح تأثير الوسائط الرقمية جزءًا أساسيًا في حياة المراهقين، حيث يُفضلون التفاعل مع الصور والفيديوهات بدلاً من النصوص المكتوبة. هذا التحول في الوسائل أفرز أشكالاً جديدة من التعبير الفني والأدبي، مما يثير تساؤلات حول مدى تأثير هذه التغيرات على إبداع الشباب وحريتهم في التعبير. في هذا السياق، يتساءل الكثيرون عن مدى قدرة الشباب على الابتكار في ظل سطوة التطبيقات الرقمية والإغراءات المرئية، وهل لا يزال بإمكانهم التعبير عن أفكار جديدة بشكل حقيقي أم أنهم مجرد مقلدين للأفكار الجاهزة؟ 

للإستماع للملخص من هنا:
لتحميل الملخص pdf من هنا:

المؤلفان هما:

  • هوارد جاردنر: أستاذ الإدراك والتعليم في كلية التربية بجامعة هارفارد. حصل على جائزة العلوم الاجتماعية لعام 2011.
  • وكيني ديفيس: حصلت على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة هارفارد وتعمل أستاذًا مساعدًا في جامعة واشنطن.

حوار فعّال بين ثلاثة أجيال.

دار حوار بين مؤلفين، ينتمي أحدهما إلى جيل ما قبل الإنترنت، وينتمي الثاني إلى جيل الإنترنت، ومن ناحية أخرى، شاركت في الحوار طالبة في المرحلة الثانوية تُعدّ من جيل التطبيقات الرقمية، أو ما يُعرف بـ جيل ما بعد الإنترنت.

كان هذا الحوار جزءًا عمليًا وتجريبيًا من دراسة موسّعة تهدف إلى استكشاف الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في حياة الشباب الذين أصبحوا يُعرفون بـ "المواطنين الرقميين"، لأنهم نشأوا في بيئة غارقة في الأجهزة الذكية، ووسط برامج وتطبيقات العصر الرقمي.

ويُعدّ هوارد جاردنر، المؤلف الرئيس، من "المهاجرين الرقميين" بحسب هذا المصطلح المراوغ، الذي يشير إلى أولئك البعيدين تمامًا عن عالم تطبيقات الجيل الجديد من الحواسيب والأجهزة الذكية. أما كاتي ديفيس، المؤلفة المساعدة، فلم يكن في منزل والديها أثناء دراستها الثانوية سوى جهاز تلفاز واحد، وهو ما يعني أن العصر الرقمي قد لحق بها، ولم تسبقه، فهي بذلك تُعدّ "مواطنة شبه رقمية".

أما طالبة المرحلة الثانوية التي شاركت في الحوار، فلا تتذكّر لحظة واحدة من حياتها دون وجود أجهزة الحاسوب المكتبية، أو المحمولة، أو الهواتف الذكية، أو الإنترنت. فهي "مواطنة رقمية نموذجية"، أمضت حياتها متنقلة بين فيسبوك وتويتر وغيرهما من شبكات التواصل الاجتماعي.

وقد أتاح هذا الحوار بين الأجيال فرصة لمقارنة ثلاث علاقات مختلفة جذريًا مع التكنولوجيا المنتشرة في حياتنا اليوم.

وأسفر الحوار عن تعميق فهمنا لثلاثة موضوعات رئيسية:

1.   شعور الإنسان بذاته وهويته الشخصية.

2.   علاقات الإنسان الحميمة بالآخرين وتأثيرها على ميوله ورغباته.

3.   قدرة الإنسان على التحليق بخياله بعيدًا عن الواقع لتفعيل طاقاته الإبداعية الخلّاقة في الواقع العملي.

ومن المؤكد أن طبيعة الإنسان لم تتغيّر بشكل جذري عبر التاريخ، ولا حتى بعد ظهور الإنترنت. ومع ذلك، نزعم أن هويتنا (أي من نكون)، وعلاقاتنا الحميمة (كيف نحب ونتعامل مع الآخرين)، وخيالنا (كيف نتخيّل المستقبل ونبدعه ونصنعه)، كل هذه العناصر الثلاثة قد خضعت لإعادة تشكيل خلال العقدين الأخيرين، نتيجة تأثير التكنولوجيا عمومًا، والتطبيقات الرقمية على وجه الخصوص.

التطبيقات.

التطبيق (App) هو برنامج يُصمَّم غالبًا ليعمل على جهاز محمول، ويتيح للمستخدم تنفيذ عملية واحدة أو أكثر. وقد تكون هذه التطبيقات ضيقة أو واسعة، بسيطة أو معقّدة، صغيرة أو كبيرة، لكنها دائمًا ما تخضع لتحكم صارم من قبل المصمِّم، سواء كان فردًا أو جهة منظّمة. لذلك، يمكن اعتبار التطبيقات بمثابة مواقع إنترنت مختصرة، أو اختصارات مبرمجة تأخذنا مباشرة إلى ما نبحث عنه، دون عناء البحث عبر الإنترنت أو داخل ذاكرة جهازك، إذا كنت من الأشخاص التقليديين الذين لا يستخدمون أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا. فالتطبيقات أدوات مبرمجة وموجّهة لتزويدنا بما نريد، أحيانًا حتى دون أن نطلب.

 

جيل التطبيقات.

لم يقتصر شباب اليوم على استخدام التطبيقات، بل أصبحوا يفكّرون في العالم كمجموعة متكاملة من التطبيقات. يرون حياتهم سلسلة مترابطة من التطبيقات المطلوبة والمرغوبة، أو كأنها تطبيق واحد شامل يمتد من المهد إلى اللحد. وقد وصفنا هذا التطبيق الشامل بـ “التطبيق الفائق" (Super App)، وهو تطبيق يلبي كل ما يرغب به الإنسان. وإذا لم يكن التطبيق المطلوب موجودًا، فسرعان ما يُصمِّمه أحدهم، وربما من يطلبه هو ذاته.

يمكن اعتبار التطبيقات وسيلة فعالة إذا كانت تساعدنا على إنجاز الأمور العادية، ممّا يحررنا لاستكشاف مسارات جديدة، وتكوين علاقات أعمق، والتأمل في أسرار الحياة، وتشكيل هوية ذات معنى.
لكن، إذا كانت التطبيقات تجعلنا أكثر كسلًا، وتقلل من قدرتنا على التفكير، وتضعف علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، فإنها تمهّد الطريق إلى نوع من العبودية النفسية.

التطبيقات التي تتيح لنا استكشاف إمكانيات جديدة وتمكّننا من النمو تُعدّ أدوات مساعدة. أما تلك التي تقيّد حركتنا واختياراتنا وتوجّه أهدافنا، فإنها تجعلنا تابعين لها.

 

التطبيقات وتأثيراتها الثلاثة.

1. الهوية وتحقيق الذات:

قد تُعيق التطبيقات تشكيل هوية واضحة، وتدفعك لتكون نسخة من صورة رمزية لشخص آخر، كأحد والديك، أو أحد أصدقائك، أو شخصية من صُنع مطوّر تطبيق. لكنها، من جهة أخرى، قد تفتح لك المجال لتشكيل هوية متأنّية، شاملة، ومدروسة، وقد تنتهي بهوية أقوى وأكثر تأثيرًا. أو قد تؤدي بك إلى ارتباك دائم في اختيار من تكون، فتفقد بوصلتك وتصبح غير قادر على أن تكون "أنت".

 

2. العلاقات الحميمة وإدارة الرغبات:

بإمكان التطبيقات أن تمهّد الطريق لعلاقات سطحية وتقيد التفاعلات الشخصية، فتبدو العلاقات الإنسانية كأنها قابلة للتصنيف وربما التحديد المسبق. لكنها، في المقابل، قد تفتح لك عوالم جديدة للارتباط بالآخرين، وتمنحك أدوات تواصل فعالة. ويمكنك دائمًا إغلاق جهازك عندما ترغب، مما يضعك أنت في موضع المسؤولية، لا التطبيقات. في النهاية، قد تبني علاقات أعمق وأطول أمدًا، أو تقف عند علاقات سريعة وسطحية. كل ذلك يتوقف على قراراتك واختياراتك من التطبيقات.

    

3. الخيال وإدارة الواقع:

قد تُضعف التطبيقات قدرتك على الإبداع، وتُحجم خيالك، وتحرمك من تطوير مهارات جديدة، أو تجعلك مقلدًا بلا تجديد. لكنها، في المقابل، تستطيع أن تفتح أمامك آفاقًا واسعة من الخيال والإبداع والإنتاج، وتشجعك على إعادة التكوين والتأليف، مما قد يساعدك على خلق هويات جديدة، وإقامة علاقات مبتكرة، وتحقيق ابتكارات متميزة.

 

الهوية الشخصية في عصر التطبيقات.

كيف تتشكّل هويات الشباب ويُعبَّر عنها في عصر التطبيقات؟
وهل هي هويات حقيقية وعميقة، أم سطحية ومختزلة؟

تناولنا هذه الأسئلة من زوايا متعددة، من بينها إجراء مقابلات وحوارات موسعة مع معلمين مخضرمين. وقد لاحظنا أن هويات الشباب في هذا العصر تميل إلى التحوّل إلى "حزمة" أو "أيقونة" تشبه أو تتماهى مع اسم التطبيق أو رمزه.
بمعنى آخر، يتم تطوير هذه الهوية وعرضها بطريقة تنقل صورة معينة — غالبًا مرغوبة ومتفائلة وسريعة الظهور — تعكس انطباعًا خارجيًا للشخص المعني، لكنها تفتقر إلى العمق الداخلي.

هذا التحوّل نحو "تغليف الهوية" داخل حزمة مكررة ومُبرمجة، يؤدي إلى تقليل التركيز على الحياة الداخلية، والصراعات الشخصية، والتأمل الذاتي، والتخطيط العميق.
وكلما اقترب الشاب من مرحلة النضج، فإن هذه الطريقة في تقديم الذات تشجّعه على المغامرة والتعرض للمخاطر، حتى وإن كانت تحت غطاء مظهر جذاب أو هوية لامعة.

بشكل عام، الحياة داخل مجتمع يغرق في التطبيقات تمنح الشباب هويات مجزأة، متناقضة أحيانًا، لكنها تُقدّم في قالب يبدو متماسكًا ومعبّرًا عن شخصية واحدة. وفي الحقيقة، هي مجرد أجزاء متناثرة مغلّفة بطريقة برّاقة.

 

الهوية بين الجوهر والمظهر.

يرى المشاركون في مجموعات الحوار والتركيز أن هويات جيل التطبيقات تُوجَّه نحو الخارج أكثر من الأجيال السابقة التي سبقت ظهور وسائل الإعلام الرقمية.
فعلى سبيل المثال، يركّز العديد من الشباب، خصوصًا من الفئات الميسورة، على تقديم صورة مصقولة ولامعة لذواتهم — صورة تتماشى مع ما تتطلبه مكاتب القبول الجامعي أو سوق العمل.

هؤلاء الشباب ينظرون إلى أنفسهم على نحو متزايد كـ “كائنات قابلة للقياس الكمي"، يتم تقييمهم من خلال درجات اختبارات مثل SAT، أو المعدل التراكمي GPA، أو عدد الرسائل من الجامعات، أو الجوائز التي حصلوا عليها، أو مشاركاتهم في الخدمة المجتمعية.

وهكذا، يتم "ترقيم" الإنسان، وتحويره رقميًا ليعبّر عن نفسه بطريقة تُظهره كعضو في جماعة متشابهة من الخارج، تهتم بالمظهر على حساب الجوهر.

 

الوهم الرقمي: خطة بلا روح.

كل هذا الإدراك يدفع الشباب للسعي وراء أكبر فائدة ممكنة في أقصر وقت، بحيث تُقاس قيمة الشخص بنجاحه الأكاديمي أو المهني فقط.

يقول أحد المشاركين في مجموعات التركيز:

"عندما يُسأل الشباب عن أحلامهم، فإنهم يعطون إجابات واقعية وعملية، يمكن تحقيقها في الحاضر أو المستقبل القريب، مثل 'الحصول على وظيفة جيدة'، أكثر مما كان عليه الحال لدى شباب الأجيال السابقة."

وخلال حديثنا مع مجموعة من الأخصائيين النفسيين، أشار أحدهم إلى أن العديد من شباب اليوم يعانون من "وهم التخطيط"، أي أنهم يظنون أن مجرد وضع خطة يعني النجاح، فيتوقفون عند تلك الخطة دون خوض التجربة الكاملة أو تطوير الذات فعليًا.

 

وهم التخطيط:

يتمثل "وهم التخطيط" في الاعتقاد الخاطئ بأن وضع خطط دقيقة وعملية سيضمن النجاح وعدم وجود عقبات أو تحديات. تُسهم وسائل الإعلام الرقمية في تعزيز هذا الوهم عبر إعطاء الشباب الفرصة لتشكيل هويات جذابة من الخارج، والتي تتم ملاحظتها ويتفاعل معها الآخرون عبر منصات مثل فيسبوك. يستخدم الشباب هذه المنصات كأداة لعرض حياتهم الشخصية وجعلها "علامة تجارية"، حيث يتم التركيز على القوائم الشخصية مثل الأصدقاء، الاهتمامات، والأنشطة المفضلة، مما يحول الهوية إلى سلعة قابلة للاستهلاك.


إفراط في الفعل على حساب التأمل:

بينما تهدف التكنولوجيا والتطبيقات إلى توفير الوقت للأفراد عبر تسريع الإنتاج وتسهيل العمليات، فإن هذا يؤدي إلى تأثير عكسي. بدلاً من منح الأفراد وقتًا للتأمل والتفكير، تساهم هذه التطبيقات في غزو الوقت الخاص بهم بالموسيقى، الرسائل النصية، الألعاب، والتفاعلات الرقمية المتعددة في وقت واحد. وهذا يؤدي إلى أن الشباب يركزون أكثر على الفعل بدلاً من العيش بعمق. فكلما زاد التواصل الرقمي، زادت العزلة الداخلية بسبب قلة الوقت المخصص للتفكير الذاتي.

التطبيقات والعلاقات الحميمة:

لقد غيرت التطبيقات الرقمية بشكل جذري طريقة تواصل الشباب، حيث أصبحت الهواتف الذكية والإنترنت العامل الأساسي في العلاقات الاجتماعية. بسبب قدرة هذه التكنولوجيا على تخطي الحواجز الجغرافية والزمنية، أصبح بإمكان الشباب ترتيب لقاءاتهم وتبادل الأفكار والتجارب بسهولة وفي أي وقت. لكن التواصل الرقمي قد لا يكون دائمًا عميقًا أو حقيقيًا.

على سبيل المثال، في دراسة حول المراهقين، أجاب أحدهم أن الهاتف المحمول يساعدهم على "وضع خطط السفر والتنسيق مع الأصدقاء"، مما يُظهر أنماطًا من التخطيط الفوري المستمر، الذي يعكس العيش في اللحظة دون تخطيط طويل المدى.

"التنسيق الدقيق"، الذي يعني القدرة على التواصل والتخطيط الفوري عبر التطبيقات، أصبح أمرًا شائعًا. لكن إذا تم إبعاد الشباب عن أجهزتهم، فإنهم يشعرون بالعزلة، كما لو أنهم فقدوا جزءًا من هويتهم الاجتماعية.

 

في العلاقات الإنسانية، اختلاف النوعية لا يعني الأفضلية:

قد تبدو التفاعلات الاجتماعية لشباب اليوم مختلفة تمامًا عما كانت عليه قبل عشرين عامًا. والأهم من ذلك هو ما إذا كان هذا التغيير في كيفية إقامة العلاقات قد يؤدي إلى تغيير في نوعية هذه العلاقات. هل التفاعلات الاجتماعية اليوم أكثر أم أقل تأثيرًا؟ هل هي أعمق أم سطحية مقارنة بما كانت عليه قبل انتشار وسائل الإعلام الرقمية؟ هل العلاقات الشخصية أصبحت أكثر أو أقل أصالة وتلاحمًا ووفاءً؟

عندما نحاول الإجابة على هذه الأسئلة، نستحضر نموذج المحلل النفسي الدكتور "إريك إريكسون". يتعامل هذا النموذج للتنمية البشرية والعلاقات الإنسانية مع تكوين العلاقات العميقة طويلة الأمد مع الآخرين باعتبارها سلوكًا ضروريًا ومحوريًا في مرحلة التكوين والنضوج الشخصي. وفي حالة غياب هذه العلاقات، تسود مشاعر العزلة والانفصال، مما يزيد من صعوبة التعامل مع التحديات اللاحقة في الحياة مثل تربية الأسرة أو الطلاق أو بناء حياة عملية ناجحة.

 

من الاتصال إلى العزلة:

العلاقة بين العزلة الاجتماعية ووسائل الإعلام الاجتماعي ليست واضحة دائمًا. في الواقع، يبدو هذا غير بديهي. كيف يمكن لتكنولوجيا صُممت لربط الناس أن تكون في الوقت نفسه أداة تجعلهم يشعرون بندرة التواصل؟ وكيف يؤدي الاتصال إلى الانفصال؟

لفهم هذه المفارقة، دعونا نأخذ مثالاً من فتاة شابة حاورناها حول تجربتها مع الفيسبوك. أثناء دراستها في المرحلة الثانوية، قررت هذه الفتاة تعطيل حسابها الشخصي على الفيسبوك. شعرت بالضغط بسبب ملاحقة النشاط المستمر لأقرانها على الموقع. بامتلاكها حسابًا على الفيسبوك، كانت تشعر أنه يجب عليها الدخول إليه باستمرار، وأنه إذا كتب أحدهم على صفحتها، لا يحق لها انتظار يومين أو ثلاثة أيام للرد، بل يجب عليها الرد على الفور. كان ذلك يشعرها بأنها مضطرة للمشاركة الدائمة في هذه الشبكة.

كما أن متابعة صفحات الفيسبوك جعلها تشعر بأنها "ليست جزءًا منها" عندما شاهدت زملاء الدراسة يعلقون على صور بعضهم البعض، والتي التقطت عبر الهواتف الذكية. كانت هذه الصور والتعليقات تعكس صورة لمجموعة من الأصدقاء الذين يعيشون لحظات من المرح والسعادة أكثر مما كانت تشعر به طوال اليوم.

التناقض بين المظهر الخارجي للسعادة والتقلبات التي كانت تعيشها في حياتها الشخصية جعلها تشعر أنه لا يمكنها الاستمرار في التفاعل مع العالم بهذه الطريقة الآلية. أحيانًا تجعل وسائل الإعلام الاجتماعي مثل الفيسبوك الناس يشعرون بالوحدة، لأنها تخلق انطباعًا بأن "أصدقائنا" يقضون وقتًا مع عدد أكبر من الأشخاص الرائعين والمثيرين، ويعيشون حياة أكثر سعادة مما نشعر به.

وقد سمعنا أيضًا من الشباب أنهم يقضون ساعات في متابعة إنجازات أقرانهم الذين لا يعرفونهم إلا عبر الفيسبوك، وأن هذا النشاط التفاعلي يشعرهم بالتهميش والدونية، وأنهم أقل حظًا.


تفسير آخر من الدكتورة "شيري تيركل":

تقدم الدكتورة "شيري تيركل"، الباحثة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تفسيرًا آخر. بالرغم من أن التطبيقات تسمح لنا بإتمام العديد من العمليات بسهولة، إلا أنها قد لا تكون مناسبة تمامًا لدعم العلاقات العميقة التي تغذي وتستمر. فعلى سبيل المثال، الرسائل على تويتر، التي تتكون بالضرورة من 140 حرفًا فقط كحد أقصى، تقتصر على نقل جوهر الرسالة الرئيسية. وتلاحظ تيركل أننا قد نتجنب عمدًا الاتصالات العميقة عبر النصوص، وذلك بسبب الوعي بطبيعتها العابرة، وكذلك القلق من أن الأشخاص في الطرف الآخر قد لا يعيروننا اهتمامهم الكامل.

تجنب المخاطرة يؤثر سلبًا على عمق العلاقات:

هناك سمة مهمة للعلاقات العميقة تتمثل في ضعف اهتمام الأطراف المتبادلة. من غير المريح مواجهة شخص آخر بأفكاره وعواطفه مباشرة، ولكن الإقدام على هذه المخاطرة العاطفية هو ما يقربنا من بعضنا البعض. فقد تشارك العلماء والمواطنون على حد سواء قلقهم بشأن أن التواصل من خلال الشاشة، بدلاً من اللقاء وجهًا لوجه، يقضي كثيرًا على الحاجة إلى الإقدام على المخاطر العاطفية في علاقاتنا. فمن السهل إلكترونيًا أن نقرر ما نريد قوله، ونشاركه عن بعد، وبالتالي نتجنب الإحراج الناتج عن رد الفعل المرتبك وغير المتوقع من الطرف الآخر.

لقد تعلمنا من خلال مجموعات التركيز أيضًا أن بعض الشباب يعتبرون إرسال رسالة إلى شخص ما بدلاً من مكالمته هاتفيًا أمرًا مريحًا لأنه أقل تطفلًا. ولا يُستبعد بالطبع أن يقوموا بإنهاء علاقاتهم عبر الرسائل النصية أو الفيسبوك بدلًا من اللقاء وجهًا لوجه، لأنهم بدأوا العلاقة بهذه الطريقة. من المؤكد أن إنهاء العلاقات بهذه الطريقة عن بعد يفتقر إلى الحميمية الحقيقية. تقول الدكتورة "شيري تيركل": "هناك خطر أن نصل إلى الحد الذي نرى فيه الآخرين مجرد كائنات يراد الوصول إليها فقط، ولا نرى فيهم سوى الأجزاء التي نجدها مفيدة أو مريحة أو مسلية."

 

التأثير القاسي لوسائل الإعلام الرقمية:

هل يمكن أن تؤثر مشاهدة العالم من خلال تطبيقاتنا سلبًا على قدرتنا على مشاهدة العالم بعيون الآخرين؟ للإجابة على هذا السؤال، ننظر إلى استطلاع رأي أجرته وكالة الأسوشييتد برس بالتعاون مع شبكة "MTV" في عام 2011. حيث أكد 71% من المشاركين الذين تراوحت أعمارهم بين 14 و24 عامًا أن الناس أصبحوا أكثر ميلًا لاستخدام لغة عنصرية أو غير لائقة عبر الإنترنت أو من خلال الرسائل النصية مقارنةً بلقائهم وجهًا لوجه.

لم تكن الطالبة التي حاورناها متفاجئة من هذه الأرقام. فهي تعرف من خلال خبرتها أن الناس بشكل عام يكونون أقل احترامًا على شبكة الإنترنت منهم في الحياة الواقعية. فالشباب يجدون أنه من الأسهل الهروب من شخص عبر شاشة أو صفحة مجهولة الهوية على الفيسبوك أو تويتر. فهم ينسون شخصياتهم على الإنترنت ويستخدمون حساباتهم الشخصية على الشبكة في صورة هوية مفصولة عن الواقع، ما يفقدهم الشعور بالمسؤولية ولا يبالون بالعواقب، لأنهم يرون أفعالهم مجرد حروف على شاشة.

الصفحات العامة على الفيسبوك قد تكون مواقع ذات طابع عدائي ومتوحش. "يمكن للناس أن يطلقوا العنان لسلبيتهم ووحشيتهم عبر ردود الفعل تجاه الرسائل الأصلية للصفحة أو تعليقات الآخرين. وفي هذه الحالة، يمكن أن تتحول عملية التواصل إلى مناقشات تعصب فيها مجموعات من الأصدقاء ضد مجموعات أخرى، فتتحول العلاقات إلى أزمات ومشكلات."


التطبيقات وخيال الشباب:

قد تفتح وسائل الإعلام الرقمي آفاقًا جديدة للشباب للتعبير عن أنفسهم بشكل خلاق. يستطيع شباب اليوم القيام بأعمال فنية كبيرة ومثيرة مثل إعادة الصياغة، إنتاج الفيديو، التصوير، والتأليف الموسيقي بصورة أسهل وأرخص من نظرائهم في مرحلة ما قبل الإعلام الرقمي. كما أنه من السهل العثور على جمهور لأي مشروع إبداعي. ولكن، قد يؤدي تصميم التطبيقات إلى تقليل الرغبة في تجاوز وظيفة البرنامج ومصادر الإلهام التي يطرحها محرك البحث مثل "جوجل". نتساءل: ما هي الظروف التي تجعل التطبيقات تساعدنا على إطلاق العنان لخيالنا؟ وما هي الظروف التي تجعلها تدعم طرقًا غير مستقلة أو ضيقة الأفق للإبداع؟ بمعنى آخر: عندما نجد ما نريده جاهزًا ومعروضًا، فإننا لا نضطر إلى الابتكار والإضافة، بل نكتفي بالتحويل والتعديل.

 

تأثير التطبيقات الرقمية في الإبداع:

بدلاً من البحث في نتائج التجارب حول الإبداع أو علاقاته الارتباطية (مثل اللعب)، اخترنا فحص الإنتاج الإبداعي الفعلي للشباب. وفرت لنا هذه الطريقة نظرة أكثر واقعية على العمليات الإبداعية لدى الشباب. لتحقيق هذه الغاية، أجرينا تحليلًا مستفيضًا يتضمن القصص القصيرة والفنون المرئية التي أبدعها طلاب المدارس المتوسطة والثانوية بين عامي 1990 و2011.

 

أولاً: الفنون المرئية.

أظهرت أبحاثنا تحليلًا لـ 354 قطعة من الفنون المرئية التي نُشرت على مدار عشرين عامًا في مجلة TeehInk، وهي مجلة دولية تعنى بالإبداع الأدبي والفني للمراهقين. كشف تحليلنا عن زيادة ملحوظة في تعقيد الأعمال الفنية بين عامي 1990 و2011. وقد قمنا بتحليل خلفية كل قطعة وتركيبها، بالإضافة إلى تقنيات الإنتاج والأسلوب العام الذي استخدمه الفنان.

اتضح أن الأعمال الفنية الأحدث كانت أكثر تطورًا مقارنة بالأعمال الأقدم. كان الفنانون المعاصرون عمومًا على دراية أكبر بالشكل الذي يرسمونه على المستوى البصري. كما بدا أن الفنانين المعاصرين كانوا أكثر راحة في تقديم الأشكال التي يرسمونها بشكل غير تقليدي مقارنة بالفنانين الأوائل. زاد عدد القطع التي تمت معالجتها باستخدام الوسائل الرقمية مثل الفوتوشوب أو المعالجة الفوتوغرافية التي تؤثر على الإنتاج.

قمنا بتصنيف القطع الفنية في ثلاث فئات:

1.   محافظة: إذا كانت تتبع الأعراف التقليدية بشكل مناسب ولم تخرج عن إطار الممارسات التقليدية لا من حيث الموضوع ولا من حيث الأسلوب.

2.   محايدة: إذا لم تتبع أساليب الفن التقليدية وفي الوقت نفسه لم تقدم أي شيء مبتكر أو لافت في موضوعها.

3.   غير تقليدية: إذا قدمت محتوى أو أسلوبًا مبتكرًا بشكل واضح.

أظهر تحليلنا انخفاض نسبة القطع المحافظة من 33% في الأعمال القديمة إلى 17% في الأعمال الحديثة، بينما ارتفع عدد القطع غير التقليدية. هذا الخروج عن المألوف يبرز زيادة التميز في الفن الذي يقدمه الفنانون الشباب على مدار العشرين عامًا التي شملها بحثنا.

 

ثانيًا: الكتابة الإبداعية.

أظهر تحليلنا للكتابة الإبداعية للمراهقين بين طلاب المدارس المتوسطة والثانوية نمطًا من التغيرات الملحوظة. قمنا بتقييم عدة عناصر مثل النوع الأدبي والفكرة وبنية القصة ومسرح الأحداث والفترة الزمنية.

وجدنا انخفاضًا ملحوظًا في كتابة النصوص المعدة للعرض والروايات المسرحية التي تميل إلى الخيال وتتطرق للأحداث والمواضيع غير الواقعية. عند النظر في فكرة كل قصة من قصص طلاب المدارس المتوسطة، حددنا ثلاث فئات رئيسية:

1.   حبكة الأحداث اليومية العادية: تحتوي على أحداث يمكن حدوثها في الحياة اليومية.

2.   حبكة الأحداث اليومية ذات المعالجة الخاصة: تحتوي على أحداث مميزة أو غير تقليدية.

3.   حبكة الأحداث الخيالية الصعبة الحدوث: تحتوي على عناصر خيالية أو حوادث مستحيلة.

لاحظنا تحولًا ملحوظًا في القصص المبتكرة حيث تم تصنيف العديد منها (64%) ضمن فئة القصص اليومية العادية. في المقابل، تراجعت القصص التي تتناول أحداثًا صعبة الحدوث إلى 14% في الأعمال الحديثة.

بالنسبة لطلاب المدارس الثانوية، مالت القصص الأقدم إلى بناء قصص غير خطية، بينما مالت القصص الأحدث إلى التدفق وفقًا للنمط الخطي التقليدي. في قصص طلاب المدارس المتوسطة، كانت الأحداث في القصص الأقدم تقع غالبًا في مواقع غير مألوفة، مثل معركة الحرب العالمية الثانية، بينما كان معظم القصص الأحدث تدور في مواقع مألوفة.

بالنسبة للغة، كانت القصص الأحدث أقل فصاحة مقارنة بالقصص الأقدم، حيث بدأ المؤلفون المعاصرون يميلون إلى استخدام لغة سطحية ومبتذلة، مع تعبيرات سوقية وألفاظ دارجة وكلمات مستحدثة.


ملاحظات من الأساتذة:

تحدثنا مع أساتذة الفنون (الفنون المرئية، والموسيقى، والفنون التعبيرية) الذين درسوا لأكثر من ثلاثين عامًا، ولديهم القدرة على ملاحظة التغييرات التي حدثت في العمليات الإبداعية للطلاب مع مرور الوقت. ورغم أن هؤلاء الأساتذة أثنوا على مدى الفرص الإبداعية المتاحة للشباب اليوم، فإن العديد منهم لاحظوا أن الطلاب يعانون من صعوبة أكبر في ابتكار أفكارهم الخاصة. فهم يميلون إلى اقتباس الأفكار الجاهزة بدلاً من الإبداع. قال أحد المعلمين: "لا يستطيع معظم الأطفال الموهوبين ابتكار فكرة جديدة. لقد حصلوا على مهارات دراسية في الفن والتصميم، ولكنهم لا يستطيعون ابتكار فكرة. يذهبون مباشرة إلى حواسيبهم المحمولة ويبحثون عن أفكار جديدة". وقد وجدتني أسألهم دائمًا عن رأيهم فيما يبدعون، لكن إجاباتهم تكون عادة: "لدي تصور"، وعندما يحاولون تنفيذ أفكارهم الخاصة، يواجهون صعوبة في تنفيذها.

وقال معلم آخر: "كانوا في وقت سابق منخرطين في العمل ويتابعون ما تأخذهم المادة إليه، لكن الآن يسألون: ماذا يمكننا أن نفعل؟"

هل هم مبدعون؟

تمتلك الشباب اليوم القدرة على الوصول إلى مجموعة أكبر وأوسع من الأعمال الفنية مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي. بالمقارنة، فإن تأثير الأدب على الوسط الفني لم يتغير بشكل ملحوظ على مر السنين؛ ففي الواقع، أدت هيمنة الوسائط المرئية إلى إزاحة الوسط الأدبي. لاحظت عالمة الأنثروبولوجيا اللغوية "شيرلي برايس هيث" أن الشباب اليوم يميلون إلى قول "هل شاهدت كذا؟" بدلاً من "هل سمعت ذلك؟" أو "هل قرأت ذلك؟" وبالتالي، يفضل الشباب اليوم التوجه إلى هذا المخزون من الصور المرئية عند ابتكار أعمالهم الفنية.

يتضح من ذلك أن التعقيد المتزايد والخروج عن المألوف في الأعمال الفنية التي تخص المراهقين قد يكون بعيدًا عن التجديد والتطور مقارنة بالأعمال القديمة. وبالنسبة لتحليلنا للخيال لدى المراهقين، لاحظنا أن الزيادة في التقليدية واستخدام اللغة العامية قد أنتجت لغة تفتقر إلى الحيوية التي كانت سائدة في النصوص القديمة، مثل التغريدات والرسائل الفورية التي تشكل جزءًا كبيرًا من القراءة اليومية للشباب. باختصار، قد يكون ما يبدو خلاقًا على السطح مكررًا ومجردًا من المضمون في الواقع.

 

رؤية الحفيد للعالم الرقمي.

تحدثتُ مع الدكتور المؤلف "هوارد جاردنر" حول تجربته مع حفيده ذو الستة أعوام في التعامل مع الوسائط الرقمية. لم أتفاجأ، إذ كان الصبي، الذي كان دائمًا على دراية تامة بالوسائط الرقمية، مرتاحًا في استخدام المصطلحات والتقنيات الرقمية. دفعته للتحدث عن فهمه للوسائط الرقمية وما تعنيه بالنسبة له، وما الذي قدمته له أو حرمته منه.

وقد أضاءت هذه المحادثة الكثير حول "رؤية الحفيد" للعالم، أي رؤيته الرقمية لهذا العالم.

هوارد: ماذا سيكون شعورك إذا أخذ والداك كل أجهزتك الذكية وهواتفك بعيدًا عنك لأسابيع قليلة؟
الحفيد: سأشعر ببعض الضيق، لكن في الواقع سيعطيني ذلك المزيد من الحرية... سألهو باللعب، وأمضي وقتًا مع أختي، وأذهب لزيارة أماكن مع والدتي ووالدي.
هوارد: ماذا تعني بكلمة "حرية"؟
الحفيد: أغلب الناس لديهم وسائل تكنولوجية (وهذه كلماته هو، وهم يشاهدون كل البرامج)، ويفعلون ذلك طوال اليوم، ولا يعملون أي شيء سوى مشاهدة التلفاز... لذا سأتمكن من اللهو بألعابي وأشياء أخرى.

هذا الحفيد بالتأكيد دارس للوسائط الرقمية، ولم يقرأ عن المدينة الفاضلة أو الواقع المرير. ولم يناقش والديه أو جديه بشأن الإغراءات الغامضة للوسائط الرقمية. ومع ذلك، يشعر وهو في سن السادسة أن الإنسان أصبح حبيسًا للوسائل التكنولوجية الحديثة، وأن العالم الكامن خلفها يستحق الاكتشاف... والزمان والمكان يسمحان بذلك.


التطبيقات.

من المؤكد أن حياتنا المعاصرة أصبحت أكثر ارتباطًا بمجموعات التطبيقات التي تملأ أيدينا. لكن تأثير هذه التطبيقات بدأ يتغلغل بعمق، ومن المرجح أن يكون أكثر ضررًا في المستقبل. يرجع ذلك إلى أن سهولة الوصول إلى هذه التطبيقات تغرس فينا فكرة أننا نرى العالم من خلالها؛ وهي فكرة تتمثل في وجود طرق متعددة لتحقيق كل ما نرغب في تحقيقه إذا كنا محظوظين بما فيه الكفاية لامتلاك المجموعة المناسبة من التطبيقات. وبذلك نصل إلى "التطبيق الفائق" أو "التطبيق الخارق" الذي يتيح لنا الحياة التي يتم تقديمها بطريقة مختارة بعناية.

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو: هل مجرد امتلاك المجموعة المناسبة والكاملة من التطبيقات يعني الحصول على حياة مثالية وسعيدة وكاملة؟

ختامًا، يمكن القول إن الشباب في العصر الرقمي يعيشون في عالم يمزج بين الخيال والواقع، بين التقنيات الحديثة والإبداع التقليدي. رغم الزيادة في عدد الوسائط المتاحة، والتغيرات الملحوظة في التعبير الفني والأدبي، فإن الكثير من هذه الأعمال قد تفتقر إلى الابتكار الحقيقي. قد يبدو أن وسائل التكنولوجيا تمنحهم حرية واسعة، لكنها في ذات الوقت تقيد خيالهم وتدفعهم نحو تكرار الأفكار الجاهزة، مما يعكس حالة من الضياع بين الإبداع التقليدي والرقمي. على الرغم من هذا، يبقى الأمل في أن الشباب قادرون على الخروج من دائرة التقليدية، واستكشاف أفق جديد من خلال تعاملهم مع العالم الرقمي.

تعليقات