يعمل المؤلف هاجون شانق، وهو كوري الجنسية، أستاذاً للاقتصاد بجامعة كمبردج الشهيرة، ولعل اختياره لعنوان الكتاب يعكس مشاهداته كعالم اجتماع لمجتمع مسيحي تلعب دولته دوراً مقدراً في حياة العالم المعاصر بما في ذلك العالم النامي.
وربما لا يكون من المعلوم عموما أن قصة "السامري الصالح" قد جاءت في إنجيل لوقا وهي تحكي عن كيفية قيام رجل من عامة الناس بمساعدة آخر وقع في مصاعب، في حين امتنع كاهن مسيحي ورجل دين يهودي من مساعدته على الرغم من مكانتهما الاجتماعية التي تفرض على كل منهما مساعدة من هو في حاجة إلى المساعدة، بغض النظر عن دينه او عرقه أو نوعه؛ قصد بالسامرين الأشرار في هذا الكتاب تلك الدول المتقدمة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تهيمن على شئون التنمية في العالم النامي من خلال المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية.
في المشهد الاستهلالي بعنوان "المعجزة الاقتصادية لموزمبيق: كيفية الانعتاق من الفقر"
يبدأ الكاتب بتخيل خبر تنقله مجلة الإيكونيميست في عددها الذي سيصدر 28 يونيو عام 2061 حول فتح تكنولوجي حققته إحدى الشركات الموزمبيقية، في مجال إنتاج بطاريات الهيدروجين والذي سيمكنها خلال عامين من التفوق على الشركات الأمريكية واليابانية! وبغض النظر عن مستقبل موزمبيق، من أفقر الدول الأفريقية حالياً، يتساءل المؤلف عم كان سيكون شعور القارئ في عام 1961 إذا أخبره أحد بأن كوريا الجنوبية ستكون بعد أربعين عاماً أحد أهم المصدرين في العالم للتلفونات المحمولة، سلعة كانت وقتها تندرج تحت قصص الخيال العلمي!
ويسرد المؤلف بقدر كبير من السلاسة والتشويق، التاريخ الاقتصادي لكوريا وكيف تسنى لها الانتقال من أفقر الدول في العالم، عندما ولد المؤلف عام 1963. إلى مصاف الدول الغنية عام 1996 عندما أصبحت عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، نادي أغنياء العالم، كيف حدث هذا الانجاز التنموي المبهر خلال حوالي 45 عاما؟
ويلاحظ المؤلف أن الاجابة على السؤال كيف تسنى لكوريا تحقيق هذا النجاح الاقتصادي الباهر، والتي جاء بها عدد كبير من الاقتصاديين، تتلخص في أن كوريا الجنوبية قد اتبعت متطلبات آلية الأسواق الحرة وذلك من خلال تبنيها لمبادئ الليبرالية الاقتصادية الجديدة: معدلات تضخم منخفضة، حكومة لا تتدخل الشأن الاقتصادي، قطاع خاص، تجارة حرة وترحيب بالاستثمار الأجنبي.
إلا أن القراءة المتأنية للشواهد التطبيقية توضح أن المعجزة الاقتصادية الكورية قد كانت نتيجة "لمزيج ذكي وواقعي للحوافز التي توفرها آلية السوق ولتدخل الدولة النشاط الاقتصادي" حيث ارتكزت الاستراتيجية الكورية على تدخل الدولة من خلال السياسات الملائمة لإصلاح الخلل الذي يترتب على عمل آلية السوق في إطار عملية إحداث التنمية.
يسارع المؤلف ليلاحظ أن كوريا ليست استثناء فيما يتعلق بعدم اتباع مبادئ الليبرالية الاقتصادية الجديدة: "إن كل الدول المتقدمة اليوم، بما في ذلك بريطانيا وأمريكا، الأوطان المفترضة للسواق والتجارة الحرة، قد أصبحت غنية بتطبيق سياسات تتعارض مع مقولات الليبرالية الاقتصادية الجديدة؛ وتشكل هذه الملاحظة المحور الأساسي للكتاب ولعنوانه المثير.
ولكن لماذا لا توصي الدول المتقدمة عالم اليوم، والمهيمنة على صنع السياسات التنموية على مستوى العالم، الدول النامية باتباع الاستراتيجيات التنموية التي انتشلتها من براثن الفقر في زمن مضى؟ وقد أجاب على مثل هذه السؤال الاقتصادي الألماني الشهير فردريك ليست عام 1841 الذي انتقد بريطانيا حينها فيما يتعلق بتبشيرها بأهمية حرية التجارة الدولية في حين أنها كانت قد استخدمت الإعانات وحماية الصناعة المحلية، واتهمها "برفس السلم" الذي مكنها من قيادة العالم الاقتصادية وتبوئها مركز الصدارة.
وبعد، يتناول ملخص هذا الكتاب أهم المقترحات التي جاء بها الكتاب، وذلك حسبما جاء في مختلف فصوله، مع ملاحظة أن الفصل التاسع الذي يتناول قضية العلاقة بين الثقافة والتنمية ينبه إلى صعوبة تفسير التنمية بالاستناد إلى الثقافة، وذلك للعلاقة المتبادلة بين الاثنين وإلى تعقد كل منهما.
التاريخ الحقيقي للرأسمالية والعولمة:
تناول المؤلف قضية التاريخ الحقيقي للرأسمالية والعولمة في الفصلين الثاني بعنوان فرعي "الاساطير والحقائق حول العوة"، والثالث بعنوان فرعي "كيف أصبحت الدول الغنية غنية"، وقد اوضح المؤلف ان هناك العديد من المقولات التي يعتبرها عدد كبير من الناس على أنها حقائق تاريخية مسلم بها لا تعدو كونها قراءة خاطئة للتاريخ أو على أحسن الفروض أنصاف حقائق. ويمكن تلخيص أهم ما توصل إليه المؤلف من قراءته الواعية للتاريخ الاقتصادي للدول المتقدمة ما يلي:
1. أن بريطانيا وأمريكا لم يكونا الوطن الأصلي للتجارة الحرة، وأنهما ولفترة زمنية طويلة، قد كانتا أكثر الأقطار ممارسة للحمائية.
2. في حين أن كل الدول لم تحقق نجاحاتها الاقتصادية من خلال الحمائية والاعانات، إلا أن قليلا من الدول حقق نجاحات اقتصادية غياب الحمائية والاعانات.
3. فيما يتعلق بالدول النامية لم يكن ا تباع التجارة الحرة خيارا متاحا إلا فيما ندر، إذ عادة ما كان مثل هذا الاتباع مفروضا من الخارج، وي بعض الاحيان تم فرضه بقوة السلاح والغزو.
4. لم تنجح معظم الدول النامية التي فرض عليها الانفتاح التجاري ي تحقيق نجاحات اقتصادية، ولكنها عادت وحققت طفرات اقتصادية يعتد بها عندما اهتدت لاتباع سياسات حمائية وقدمت إعانات حكومية لعدد من القطاعات الاقتصادية.
5. أن أفضل الدول النامية أداء كانت تلك التي قامت بالانفتاح التجاري بطريقة انتقائية ومرحلية.
6. تدعي المدرسة الليبرالية الجديدة أن سياسة التجارة الحرة وآلية الأسواق الحرة تضحي بقضايا عدالة التوزيع من أجل تحقيق النمو الاقتصادي، إلا أن الحقيقة تقول بأن هذه السياسات لم تحقق أيا من هذه الأهداف: فقد تباطأ النمو الاقتصادي خلال الربع الأخير من القرن الماضي عندما تحررت الأسواق وفتحت حدود الدول.
التجارة الحرة وهل هي الحل دائما.
يلاحظ المؤلف الفصل الرابع أن "حرية التجارة" " تمثل الركن الأصيل للفكر الاقتصادي الليبرالي الجديد. بمعنى أن الاعتقاد في منافع التجارة الحرة، والتبشير بهذه المنافع لكل الدول وفي كل الأزمان، يعرف من هو الاقتصادي الليبرالي الجديد. "ويمكن للمرء أن يشكك في أي من أجندة هذا الفكر - تحرير أسواق رأس المال، أو احترام حقوق الملكية، أو حتى الخصخصة بمعنى نقل الأصول الانتاجية من القطاع العام للقطاع الخاص - ويظل ضمن المؤمنين، ولكن حالما يشكك المرء في نجاعة التجارة الحرة يتم تكفيره وإعلان خروجه عن ملة الاقتصاد الليبرالي الجديد“.
على الرغم من محورية التجارة الحرة لهذا الفكر، يوضح المؤلف ما يلي:
1. أنه بالرغم من جهود المبشرين، وفرض المؤسسات الدولية بالنيابة عن الدول المتقدمة لسياسة تحرير التجارة الخارجية على الدول النامية، وعلى الرغم من خضوع عدد كبير من الدول النامية لمثل هذه الاملاءات، إلا أن سجل الأداء التنموي لا يوفر شواهد تؤيد ما ذهب إليه هذا المذهب الاقتصادي.
2. أنه إذا كان هناك من بلد واحد جدير بأن يجني ثمار حرية التجارة فإن المكسيك ترشح نفسها بامتياز (خصوصا بعد توقيع معاهدة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) في منتصف التسعينات)، وتوضح الشواهد أن معدل نمو الدخل الحقيقي للفرد في المكسيك خلال الفترة 2001-2005 قد بلغ حوالي 0.3 المائة سنويا مقارنة بمعدل نمو سنوي بلغ حوالي 3.1 يا المائة خلال فترة استراتيجية إحلال الواردات 1955-1982!
3. يمكن تفسير النتائج المخيبة لأمال المؤمنين بحرية التجارة ي حالة المكسيك، وحالات دول نامية أخري، بملاحظة أن هذه النتائج تتوافق مع فقر نظرية التجارة الخارجية التي استندت عليها عملية التبشير بها. ويلاحظ المؤلف في هذا الصدد أن نظرية التجارة الحرة تهتم "بكفاءة استخدام موارد اقتصادية معلومة في المدى الزمني القصير، وليس بزيادة الموارد المتاحة من خلال التنمية ي المدى الزمني الطويل“.
4. تحت ادعاء "تسوية أرض الملعب الاقتصادي" قامت الدول المتقدمة بإنشاء نظام دولي للتجارة، تحت منظمة التجارة الدولية، يتسم بالتحيز الصارخ لصالح الدول المتقدمة تحت هذا النظام "حرمت الدول النامية من استخدام أدوات سياسات التجارة والسياسات الصناعية" التي سبق للدول المتقدمة استخدامها لتحقيق التنمية، والتي اشتملت على أدوات حماية الصناعات الناشئة والاعانات، والتحكم ي الاستثمار الأجنبي وعدم احترام حقوق ملكية الأجانب.
5. "بينما لا تضمن الحمائية إحداث التنمية، إلا أنه عادة ما يصعب تحقيق التنمية في غياب الحمائية"، وبينما ليس هناك من ينكر أهمية التجارة الدولية للتنمية الاقتصادية، "إلا أن التجارة الحرة ليست هي أهم المسارات لتحقيق التنمية".
هل ينبغي التحكم الاستثمار الاجنبي؟
في الفصل الرابع يلاحظ المؤلف تبلور اتفاق عام في أوساط المتخصصين. بما في ذلك صندوق النقد الدولي، حول عدم استقرار تدفقات رأس المال الدولي عبر الحدود، خصوصا الديون واستثمارات الحافظة وما يترتب على عدم الاستقرار هذا من وقع سلبي على اقتصاديات الدول النامية. من جانب آخر، فإن هناك أيضا اتفاق عام على أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتصف بالاستقرار بالإضافة إلى عدد من الفوائد التي يمكن أن يجنيها القطر المضيف (مصدر لرأس المال، وتحسين موقف التوازن الخارجي، وقاعدة لزيادة الانتاجية، وزيادة التشغيل، ودعم التنافسية، ونقل التقنيات، ومصدر للمعرفة الادارية).
على الرغم من هذه الفوائد التنموية التي يمكن أن تترتب على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، مقارنة بالتدفقات الاخرى لرأس المال، إلا أن هناك مشاكل تتعلق بمثل هذه التدفقات: الاحتياجات الصافية للشركات من النقد الأجنبي، والتسعير التقاطعي بين فروع الشركات الأجنبية، واحتمال تأسيس جيوب صناعية معزولة عن الاقتصاد المحلي، واحتمال تدمير المقدرة التنافسية للشركات المحلية.
ويلاحظ المؤلف أنه على الرغم من قيام عدد من الدول المتقدمة المعاصرة، سالف أزمانها بالتحكم تدفقات الاستثمار الاجنبي المباشر (الولايات المتحدة الامريكية ي القرن التاسع عشر، واليابان على سبيل المثال)، إلا انها قامت، ولا زالت تقوم، في إطار منظمة التجارة الدولية وغيرها من المنظمات بجهود لتجريم التحكم الاستثمار الأجنبي بواسطة، الدول النامية (على سبيل المثال، ترتيبات الاستثمار المتعلقة بالتجارة) ويخلص المؤلف إلى نتيجة مؤداها "أنه يمكن للاستثمار الأجنبي المباشر أن يؤثر إيجابيا في عملية التنمية، ولكن في إطار إستراتيجية طويلة المدى، وأنه يتوجب صياغة السياسات بحيث تجنب البلد المستقبل للاستثمار الأجنبي المباشر كل السلبيات التي ربما ترتبت عليه.
المشروعات الخاصة والمشروعات العامة.
في الفصل الخامس، يستعرض المؤلف الدعوة التي أقامها أتباع المذهب الاقتصادي الليبرالي الجديد ضد "المشروعات العامة" التي تستند من الناحية الفنية على مشكلة "المالك والمدير"، وتتلخص المشكلة بملاحظة أن من يملك المشروعات العامة هم جمهور المواطنين، فيما يلي:
1. أن هناك تكاليف تترتب على انعدام الحوافز لدى مديري المشروعات العامة فيما يتعلق بالسلوك القاضي بتعظيم الربح، وذلك لأنهم يتقاضون رواتب ثابتة لا تتأثر بالأرباح التي يحققها المشروع، مما يترتب عليه عدم كفاءة في الانتاج.
2. على الرغم من ملكية جمهور المواطنين للمشروع العام، فإنه ليس هناك من حوافز لأي فرد منهم لان يقوم بمراقبة أداء المديرين، فحثى لو قام بعض الأفراد بمراقبة أداء المديرين ومقابلة تكاليف هذه المراقبة، وترتب على ذلك زيادة ي الارباح فانه سيتم توزيع هذه الارباح على الجميع بالتساوي، مما يعني أن من قام بالمراقبة سيحصل على نصيب أقل من نصيب أولئك الذين لم يقوموا بعملية المراقبة. ويترتب على ذلك انعدام الحوافز لدى الجميع للقيام بمراقبة الاداء.
بالإضافة إلى مشكلة انعدام الحوافز لدى الطرفين لتعظيم أرباح المشروعات العامة، فان هناك مشكلة "القيد الرخو للموازنة". وتتعلق هذه المشكلة بملاحظة أن "المشروعات العامة" بطبيعة تبعيتها للدولة، عادة ما يمكنها الحصول على موارد إضافية من الخزينة العامة متى ما حققت خسائر أو متى ما هددها الافلاس. ويترتب على وجود مثل هذا القيد غير الحاكم التسيب إدارة المشروع العام.
على أساس من هذه الملاحظات حول "المشروعات العامة"، فقد تمت اقامة الدعوة لنقل ملكيتها للقطاع الخاص للارتقاء بأدائها. ويسارع المؤلف لملاحظة أن كل هذه الحجج تنطبق على كبريات الشركات المملوكة للقطاع الخاص التي يقوم بإدارتها مديرون مؤجرون، ومن ثم تتهاوى صحيفة الاتهام للمشروعات العامة. بالإضافة إلى ذلك، يورد المؤلف أمثلة على نجاح عدد كبير من المشروعات العامة في عدد من الدول النامية: سنغافورة، كوريا الجنوبية، تايوان، الصين والبرازيل، وفي عدد من الدول المتقدمة، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية: المجر، فنلندا، فرنسا، النرويج وإيطاليا.
يوضح المؤلف أن هناك ما يؤيد الاعتماد على المشروعات العامة، النظرية الاقتصادية كبديل أكثر كفاءة لشركات القطاع الخاص، في بعض الحالات، أول مثل هذه الحالات هي إخفاق آلية سوق رأس المال بسب مخاطر الاستثمار في المشروعات ذات العائد الذي عادة ما يتحقق في المدى الزمني الطويل: وثانيها، حالة الاحتكارات الطبيعية التي تتبلور عندما تتطلب تقنيات الانتاج أن يكون هناك منتج وحيد لسلعة معينة (الكهرباء، الماء، الغاز، السكك الحديدية والتليفونات الثابتة: وثالثها، حالة عدالة التوزيع بين المواطنين
(خصوصا تكلفة توصيل الخدمات الأساسية للذين يقطنون في أماكن نائية).
وبعد، على الرغم من إمكانية إبطال الدعوة لخصخصة المشروعات العامة على نفس الأسس التي أقيمت عليها. يلاحظ المؤلف أن هنالك العديد من المشاكل التطبيقية المحيطة بعملية تنفيذ برامج الخصخصة، التي تشتمل على تحديات تتعلق "بتحديد المشروعات العامة التي يراد بيعها وتحديد السعر الملائم للمشروع الذي يراد بيعه" وتحديد حجم برنامج الخصخصة وأوقات التنفيذ" وتحديد الجهة الملائمة لشراء المشروع العام" و"تجنب شبهات الفساد الكبير". و"تأسيس جهاز فعال للتنظيم فيما بعد بيع مشروعات الاحتكارات الطبيعية".
على أساس تحليله التاريخي والنظري والتطبيقي، يخلص المؤلف إلى أنه ينبغي على الدول النامية عدم التخلص من المشروعات العامة التي تنتمي إلى قطاعات الاحتكارات الطبيعية، والصناعات التي تتطلب استثمارات كبيرة وتتصف بالمخاطر المرتفعة. والقطاعات التي توفر خدمات أساسية للمواطنين، إلا إذا كان لدى الحكومة مقدرات عالية في مجال زيادة الايرادات الضريبية وفي مجال إحكام مراقبة ومتابعة والتحكم المشروعات العامة بعد تخصيصها، كذلك يلاحظ المؤلف انه بالإمكان تحسين اداء المشروعات العامة دون اللجوء إلى الخصخصة من خلال مراجعة أهدافها وإعادة تحديد أولوياتها، ومن خلال تعريضها للمنافسة.
هل من الخطأ استلاف الأفكار؟
يتناول الفصل السادس قضية حماية الملكية الفكرية (بمعنى حماية براءات الاختراع، وحقوق الطبع، والعلامات التجارية المسجلة). ويبادر ليلاحظ أن عددا محدودا من الشركات عابرة الجنسيات التي تعمل في مجالات صناعة الأدوية وبرامج الحاسبات الآلية وصناعة الترقية هي التي شكلت الأجندة الدولية حول حقوق الملكية الفكرية خلال العقود الثلاثة الماضية.
ويلاحظ هذا الصدد، أن المنتجات الجديدة والمبتكرة لمثل هذه الصناعات عادة ما يسهل نسخها ومحاكاتها في إطار ما يعرف بالقرصنة الفكرية، وذلك خلافا لتقنيات إنتاجية أخرى يصعب السطو عليها، هذا وقد توجت جهود مثل هذه الشركات في "تدابير حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة" في إطار منظمة التجارة الدولية. وترتب على هذه التدابير توسع المدى، وإطالة للزمن، وتعميق للحماية الفكرية بطريقة غير مسبوقة، الأمر الذي سيصعب على الدول النامية الحصول على التقنيات والمعرفة المستجدة التي تحتاجها لإحداث عملية التنمية.
ومثلها في ذلك مثل بقية المجالات، فقد مارست الدول المتقدمة المعاصرة في سابق أزمانها كل أنواع القرصنة التقنية بما في ذلك إغراء العمال الأجانب للهجرة بخبرتهم التقنية والتحايل على براءات الاختراع المسجلة بواسطة الأجانب، وتقييد العلامات التجارية المسجلة، والاعتداء على حقوق الطبع.
ويخلص المؤلف إلى أن القضية المحورية تتلخص في الموازنة ما بين "تشجيع الأفراد لإنتاج معرفة جديدة وبين الحاجة إلى التأكد من أن تكلفة الاحتكار لا تزيد عن العائد من المعرفة الجديدة التي تم إنتاجها، ولتحقيق هذا التوازن، فإن هناك حاجة لتحقيق درجة حماية حقوق الملكية الفكرية السائدة حاليا عن طريق تقصير مدة الحماية الممنوحة، وزيادة سقف التأصيل والابتكار المطلوب، وتسهيل عملية الترخيص الاجباري والاستيراد الموازي.
ما هي حدود الحرص التمويلي؟
في الفصل السابع يتناول المؤلف الوصفة التقليدية التي يوصي بها السومريون الأشرار، ممثلين بصندوق النقد الدولي، فيما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي والتثبيت المالي. وفي هذا الإطار، فإن المدرسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة تعتبر أن "التضخم هو الحدق الأول" فيما يتعلق بتحقيق معدلات نمو اقتصادي يعتد بها. ولتحقيق معدلات تضخم منخفضة يوصي بأن يكون هناك انضباط نقدي بمعنى أن يقوم البنك المركزي بزيادة عرض النقود بكمية تفوق احتياجات دعم النمو الحقيقي في الاقتصاد من جانب، وأن يكون هناك حرص تمويلي بحيث تمتنع الحكومات عن الصرف فوق إمكانياتها من جانب آخر".
يلاحظ المؤلف في هذا الصدد أن معدلات التضخم المرتفعة للغاية يمكن أن تضر بعملية النمو الاقتصادي، إلا أن هناك من الشواهد ما يوضح بأن معدلات متوسطة للتضخم (حتى 40 المائة) سنويا، "ليست ضارة فقط بالنمو الاقتصادي"، وإنما ربما كانت متوافقة مع نمو اقتصادي متسارع وزيادة في عدد الوظائف. ويمكننا القول إن الاقتصاد الديناميكي لابد له من إفراز درجة ما من التضخم. فالأسعار تتغير عندما تحدث تحولات الاقتصاد".
وينبه المؤلف السومريين الأشرار، يمثلهم صندوق النقد الدولي، يفرضون على الدول النامية اتباع سياسات نقدية متشددة عندما تواجه هذه الدول ركودا اقتصاديا (زيادة أسعار الفائدة لمستويات غير معقولة وسخيفة في بعض الأحيان، وتحقيق توازن داخلي في الموازنة العامة). إلا أن الدول المتقدمة ذاتها عادة ما تتبع السياسات النقيضة عندما تواجه ركودا اقتصاديا.
ويلخص المؤلف هذا الموقف من السياسات بأنه ينطوي على توصية مؤداها "الكينزية للدول الغنية والنقدية للدول النامية إشارة للسياسات التوسعية للطلب الاجمالي التي قال بها الاقتصادي الانجليزي الأشهر جون ماينارد كينز، وللسياسات الانكماشية النقدية التي جاء بها الاقتصادي الأمريكي المشهور ميلتون فريدمان.
كيف يمكن التعامل مع الفساد وغياب الديموقراطية؟
يبدأ الفصل الثامن بعقد مقارنة سريعة بين زائير (جمهورية الكنغو الديموقراطية حالياً) في عهد رئيسها السابق موبوتو، وإندونيسيا في عهد رئيسها السابق سوهارتو.، ويلاحظ المؤلف أن هناك تقديرات توضح سرقة كل من الرئيسين بحوالي 5 مليار و15 مليار دولار على التوالي خلال فترة 32 سنة، كما يلاحظ أنه خ حين انخفض الدخل الحقيقي للفرد في زائير بحوالي ثلاثة أضعاف، ازداد الدخل الحقيقي للفرد في إندونيسيا بما يفوق ثلاثة أضعاف!
توضح هذه المقارنات وهي حجة السومريين الأشرار، التي أصبح لها رنين طاغ في أوساط المهتمين بالتنمية، والتي تقول بأن الفساد يمثل أحد أهم العقبات الرئيسية للتنمية الاقتصادية. ذا وقد تبنى البنك الدولي، تحت رئاسة بول ولفويتر هذا المقترح وأعلن حربا على الفساد في الدول النامية على اعتبار أنها جهدا مكملا لحربه المعلنة على الفقر. هذا وقد استخدمت هذه الحجة بواسطة الدول المتقدمة لفرض مزيد من الشروط على تقديم العون التنموي للدول النامية، ولتفسير فشل السياسات الاقتصادية التي فرضتها على هذه الدول منذ بداية عقد ثمانينات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن الفساد ظاهرة عادة ما تدعو للاستهجان، إلا أن علاقتها السببية مع التنمية غير واضحة المعالم. كما انها ظاهرة ليست بالجديدة، فقد تطورت الدول المتقدمة المعاصرة على الرغم من أن حياتها العامة كانت تتسم بدرجات مرتفعة للغاية من الفساد، من جانب آخر. فإنه ليست هناك من علاقة سببية واضحة المعالم بين التنمية والفساد إلا أن رأي المؤلف يتلخص في انه من المتوقع أن تؤدي التنمية إلى تسهيل عملية الاقلال من الفساد كظاهرة مجتمعية.
بالإضافة للفساد، فقد اشتملت أجندة سياسات المدرسة الليبرالية الجديدة على الديموقراطية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية ودور آلية الأسواق الحرة في تعضيد هذه العلاقة. ويلاحظ المؤلف تهافت هذه الحجة أيضا بغض النظر عن نجاعة آلية الأسواق الحرة في إحداث التنمية، ويمكن تلخيص أهم ملاحظات المؤلف هذا الصدد على النحو التالي:
1. أن هناك تضارب أساسي بين الديموقراطية وآلية السوق، إذ أن الديموقراطية تستند على مبدأ "صوت واحد للفرد الواحد". بينما تستند آلية السوق على مبدأ "صوت واحد للدولار الواحد" ويوضح التاريخ أن الدول المتقدمة حاليا بدأت بأنظمة انتخابية على أساس آلية السوق.
2. لقد أدت السياسات التي روجت لها المدرسة الليبرالية الجديدة، وفرضتها على الدول النامية، إلى سيادة مبدأ "صوت واحد للدولار الواحد" وفي ضوء أعلاه يعني ذلك أن التوجه نحو الديمقراطية الدول النامية قد تم إضعافه من جراء هذه السياسات.
3. يطلب دعاة عقيدة الليبرالية الاقتصادية الجديدة أن تمارس اللعبة الديموقراطية تحت ظل اقتصاد منزوع من السياسة. بمعنى نزع عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية من يد الحكومة (المنتخبة) وإعطائها لمؤسسات مستقلة يديرها مدراء غير منتخبين (كالبنك المركزي المستقل، وإدارة مستقلة للإيرادات)، كذلك، يطلب من الحكومات المنتخبة توقيع الاتفاقيات الدولية التي تحد من حرية حركتها في صياغة السياسات الاقتصادية.
الخاتمة.
هذا كتاب تجدر قراءته بواسطة كل الذين يعملون مجال التنمية، ويحق للمؤلف أن يفخر بالجهد البحثي الذي بذله في إعداده. فمن خلال المنهج الذي اعتمده (وهو خليط من النظرية الاقتصادية والتاريخ الاقتصادي والشواهد التطبيقية المحاصرة) أضاف المؤلف حججا قوية تدعم موقف الاقتصاديين التنمويين الذين ما فتأوا يقولون بعدم ملاءمة السياسات الاقتصادية التي ظلت تفرض على دولهم منذ بداية ثمانينات القرن الماضي خصوصا من الدول النامية؛ وعلى الرغم من أن أشهر الذين قاموا بتزكية الكتاب على الغلاف الخارجي بمن فيهم جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل. ولاري إليوت، المحرر الاقتصادي لجريدة الغارديان البريطانية ومارتن ولف، المحرر الاقتصادي ي جريدة الفايننشال تايمز) قد وصفوا أهميته على أنه كتاب حول "العولمة"، إلا أن القراءة المتأنية لمحتويات الكتاب توضح أنه كتاب حول كيفية إحداث التنمية في الدول النامية خصوصا فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي يمكن اتباعها لتحقيق ذلك.
وتتمثل الأطروحة الأساسية للكتاب أن السياسات المطلوبة لإحداث التنمية التي تقع على الطرف النقيض لسياسات المدرسة الليبرالية الجديدة. كان قد تم اتباعها بواسطة الدول المتقدمة اليوم في سابق أزمانها. وأن هذه الدول المتقدمة قد سلكت سلوكاً شريرا بإصرارها على فرض سياسات "وفاق واشنطن على الدول النامية"، ولعل التحفظ الوحيد الذي يمكن أن يثار حول أهمية هذه المساهمة المعمقة هو التفاؤل حول إمكانية التأثير الايجابي على معتنقي مذهب الليبرالية الاقتصادية الجديدة وحملهم على تغيير معتقداتهم فيما يتعلق بكفاءة عمل آلية الأسواق في كل مكان وزمان، دولا كانوا أو مؤسسات دولية أو اقتصاديين مهنيين، وهو الأمر الذي تناوله المؤلف في المشهد الختامي للكتاب، مثل هذا التفاؤل ليس مبررا في ظل ملاحظة أن الهيمنة على عملية اتخاذ القرارات التنموية على مستوى العالم بواسطة الدول المتقدمة الديموقراطية لا تتيح مجالا لسماع تفاصيل الأفكار التنموية التي تأتي من مواطني الدول النامية حتى لو كانوا أساتذة في أعرق الجامعات الغربية، وحتى عندما تتغير المعتقدات، وبعد فترة زمنية طويلة نسبيا عادة ما تستند عملية التغيير على نتائج يتم الحصول عليها تحت إشراف الأطراف المهيمنة؛ ربما لحجب "الشرف عن الباحثين من الدول المتخلفة" وذلك كما حدث عندما أعلن البنك الدولي على الانترنت في العاشر من أغسطس 2004 على أن "الإقراض لسياسات التنمية" سيحل محل "الاقراض من أجل التكيف الهيكلي".
تعليقات
إرسال تعليق