ليس كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” كتابًا بسيطًا يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخيًا، أو يقتحمه في أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك ثم يظن أنه قد فهم شيئًا أو أنه قادر على تقييمه أو تصنيفه بين الأنماط الفكرية المختلفة.
إنما على القارئ الجاد أن يحتشد له ويتهيأ للدخول في عالم كتاب ثري بأفكاره متميز بمنهجه أخّاذ بأسلوبه وقوة منطقه وثقافة صاحبه العميقة الواسعة.
فمؤلف الكتاب متمكن من الثقافتين الإسلامية والغربية معًا. فهو مسلم حتى النخاع، وأوروبي بالمولد والنشأة والتعليم. لقد استوعب الفكر الغربي ولكنه لم يغرق فيه. ولم يجهل أو يتجاهل مواطن القوة وجوانب الضعف والتناقض والقصور. واستطاع “علي عزت بيجو فيتش” بقدرته التحليلية أن يطلع القارئ على حقائق عن الإسلام ومؤسساته وتعاليمه لم تستلفت انتباه أحد من ذي قبل. ويتسق منهجه التحليلي في تقصي الحقائق مع هدفه الذي عبر عنه بقوله:
“لكي نفهم العالم فهمًا صحيحًا لا بد أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم وأن نعرف معانيها”.
وللمؤلف أفكار ومفاهيم جديدة ويستخدم مصطلحات مألوفة في معان جديدة غير مألوفة.
فهو مثلاً عندما يتحدث عن “الدين” لا يشمل بهذا المصطلح الإسلام، وإنما يقصره على مفهومه عند الغربيين سواء من الذين اتبعوه أو الذين هدموه. فهو تعبير عن علاقة شخصية تأملية بين الإنسان وبين ربّه ولا شأن له بالدنيا أو بأمور الحياة.
وعندما يتحدث عن الإسلام، فإنه يتحدث عنه في إطار الفكرة الجديدة التي ابتدعها وهي فكرة “الوحدة ثنائية القطب” التي تضم في مركب جديد القضيتين المتصادمتين المنفصلتين في العقل الغربي، أولاهما: الروح والمادة، السماوي والأرضي، الانساني والحيواني، الدين والدنيا، هذه الثنائية الكامنة في طبيعة الإسلام هي التي مكنته من أن يجمع بين المتناقضتين في كيان واحد.
ويؤكد المؤلف بتحليلاته الوثيقة أن الفشل الذي أصاب الايديولوجيات الكبرى في العالم، إنما يرجع إلى نظرتها إلى الإنسان والحياة نظرة “أحادية الجانب” شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، ينكر كل واحد منهما الآخر ويدينه بلا أمل في لقاء.
ولكن المؤلف خلال تحليله للفكر الغربي يقع على نموذج تتميز فيه محاولة للتركيب بين النقيضين، وقد وجد ذلك متمثلاً في تقاليد الفكر الإنكليزي بصفة خاصة وفي العالم الانجلوسكسوني بصفة عامة (وهم القبائل الجرمانية التي غزت وسكنت بريطانيا في القرن الخامس والقرن السادس فسماه (الطريق الثالث خارج الإسلام) وعقد له فصلاً خاصًا في نهاية الكتاب.
ويرى المؤلف في هذا الاتجاه سعيًا نحو ما يسميه “الإسلام الفطري” وإن كان دون قصد أو وعي. ولكنه يشير إلى حقائق تاريخية ذات دلائل هامة حيث يتتبع أصول الفكر الإنجليزي منذ “روجر بيكون” وينسبها إلى أصول إسلامية لا يمكن إنكارها.
إن منهج “علي عزت” وتحليله لمفاهيم أخرى خلال القسم الأول من الكتاب أوصله إلى حقائق ربما تصدم القارئ لأول وهلة. فهو يتطرق إلى موضوعات ربما حرص القارئ العربي أن يطرحها جانبًا وهو يتناول قضية الدين، ولكن علي عزت بنظرته الثاقبة يكشف عن عناصر دينية في موضوعات مثل: الفن والدراما، القانون وعلم الأخلاق وحتى الفلسفات الوجودية والعدمية.
ويلفت المؤلف انتباه القارئ إلى أن عداء الغرب الحالي للإسلام ليس مجرد امتداد للعداء التقليدي والصدام الحضاري المسلح بين الإسلام والغرب منذ الحملات الصليبية، وإنما يرجع إلى تجربته التاريخية الخاصة مع الدين، وإلى عجزه عن فهم الإسلام لسببين جوهريين، وهما:
طبيعة العقل الأوروبي “أحادي النظرة”.
قصور اللغات الأوروبية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية.
وضرب لذلك مثالاً بمصطلحات الصلاة والزكاة والوضوء والخلافة والأمة حيث لا يوجد ما يقابلها في المعنى باللغات الأوروبية.
وهو عندما يتحدث عن اليهودية أو المسيحية، فإنه يتحدث عنهما من واقع الصورة التي تعكسها الكتابات المصدرية التي اعتمدها أصحاب الديانتين أنفسهم، وعندما يتحدث عن عيسى وموسى عليهما السلام، فإنه يتحدث عن الشخصيتين كما صورهما أتباع عيسى وموسى. ومنطقه أنهما بهذه الصورة، فقط، كأن تأثيرهما التاريخي في العالم، بصرف النظر عن حقيقة ما ورد بشأنهما في القرآن الكريم مما لا يجهله المؤلف. وينهي “علي عزت” كتابه بتسبيحة بالغة الدلالة على موقفه النفسي تجاه المحن والخطوب التي تنزل بها الأقدار. ـ
قد جاء كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لمؤلفه الرئيس البوسني (علي عزت بيجوفيتش) ليناقش أبرز الأفكار العالمية في تاريخ البشرية المعاصرة، وللإجابة على كثير من الأسئلة التي تهم الجيل الجديد.
والهدف من الكتاب هو: إنارة الطريق للبشرية التي تتجه إلى مُرَكَّب جديد، وموقف وسطي جديد في عصر المعضلات الكبرى والخيارات، وقد أصبحت الأيديولوجيات المتضاربة بأشكالها المتطرفة لا يمكن فرضها على الجنس البشري، ومن هنا فإن الإسلام هو مستقبل الإنسان، لأنه يدعو إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه.
وكما كان الإسلام في الماضي الوسيط الذي عبرت من خلاله الحضارات القديمة إلى الغرب، فإن عليه اليوم مرة أخرى أن يتحمل دوره كأمة وسط في عالم منقسم، وذلك هو معنى الطريق الثالث – طريق الإسلام – الذي يحتل موقعًا وسطًا بين الشرق والغرب.
وعن طبيعة هذا الكتاب يقول مؤلفه في مقدمته أن هذا الكتاب ليس في اللاهوت ولا مؤلفه من رجال اللاهـوت … إنه على الأرجح محاولة لترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها، إنه كتاب يتناول عقائد الإسلام ومؤسساته وتعاليمه بقصد اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكـر العــالمي…
ومن خلال الكتاب، ناقش (بيجوفيتش) عددا من الأفكار العالمية التي تهم البشرية من خلال دراسة متعمقة وموسوعية موجزة.
فكتاب الإسلام بين الشرق والغرب هو في حقيقته كما قال البعض “موسوعة علمية” أو عدة كتب كبيرة في مجلد صغير…
ونظرا لكثرة الموضوعات التي ناقشها المؤلف فسوف نقتصر على إلقاء الضوء على بعض القضايا العلمية التي تتعلق بقضية أصل الإنسان بين المادية والإسلام، وقضية التفسير العلمي لآيات القرآن الكريم.
ويشتمل الكتاب على قسمين رئيسين:
القسم الأول: يحمل عنوان المقدمات ويتناول نظرات حول الدين بصفة عامة من خلال مناقشة موقف كل من الدين والإلحاد من قضية أصل الإنسان والقضايا الأخرى المتعلقة بها, ومنها: الخلق والتطور، الثقافة والحضارة، ظاهرة الفن، الأخلاق، الثقافة والتاريخ، والدراما والطوبيا.
(الطوبيا هي: الفلسفة والتصوُّف ،كل فكرة أو نظرية تسعى إلى المثل الأعلى ولا تتصل بالواقع أو لا يمكن تحقيقها. (
أما القسم الثاني من الكتاب:فهو مخصص للإسلام، فالإسلام كما يقول المؤلف “ليس مجرد دين أو طريقة حياة فقط، وإنما هو بصفة أساسية مبدأ تنظيم الكون”.
فكما أن الإنسان هو وحدة الروح والجسد، فالإسلام وحدة بين الدين والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الاجتماعي يمكن أن يخدم بدوره المثل العليا والأخلاق. هذه الوحدة الغريبة عن المسيحية وعن المذهب المادي معا، ميزة في الإسلام، بل هي من أخص خصائص الإسلام.
أصل الإنسان بين المادية والإسلام:
يبدأ الرئيس (علي عزت بيجوفيتش) في الفصل الأول من كتابه مناقشة قضية أصل الإنسان، وماهية الحياة؟ وهي القضية التي تعد حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأية مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان؟ تأخذنا إلى الوراء إلى حيث مسألة أصل الإنسان، وفي ذلك تتناقض الإجابات التي يقدمها كل من الدين والعلم، كما هو الشأن في كثير من القضايا.
يقول الماديون: إن الإنسان هو حيوان كامل، وأن الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هو فرق في الدرجة وليس في النوع، فليس هناك جوهر إنساني متميز.
بينما يقول (دارون):
الإنسان مجرد حيوان نشأ عبر عملية تطور طويلة، ويقول (جوليان هكسلي) إن الإنسان مجرد حيوان متفرد.. إن علم الحفريات وعلم هيئة الإنسان وعلم النفس، كلها علوم تصف من الإنسان فقط الجانب الآلي الذي لا معنى له. الإنسان مثله كمثل اللوحة الفنية والمسجد والقصيدة، أكثر من مجرد كمية ونوعية المادة التي تكونه، الإنسان أكثر من جميع ما تقوله عنه العلوم الحديثة.
ويمضي الرئيس (علي عزت بيجوفيتش) إلى محاورة مع علماء البيولوجيا يستنطقهم في مقولة كيف تطور الإنسان؟ ولماذا توقف عن التطور بعد أن أصبح إنسانا بزعمهم؟
ماهية الحياة:
ويكشف علي عزت بيجوفيتش كيف أن العلماء على جهل بحقيقة ماهية الحياة وبدخائل النفس البشرية إلى حد لا يمكن معه أبدًا الجزم بشيء على أية درجة من المصداقية… في سـنة 1950م، وضـع (أندريه جورج) سؤالا واحدًا لعلماء البيولوجيا والأطباء وعلماء الطبيعة هو: ما هي الحياة؟ وكانت جميع الإجابات التي تلقاها حذرة وغير محددة.
ولنأخذ فيما يلي إجابة كل من (بيير لايان) و(جان روستاند) كنموذجين:
(يظل السر كاملا، فنقص معلوماتنا تجعل كل تفسير للحياة أقل وضوحا من معرفتنا الغريزية بها) … (حتى الآن لا نعرف على وجه التحديد ماهية الحياة نحن لا نستطيع حتى الآن أن نقدم تعريفا كاملاً دقيقا لظاهرة الحياة. (
ويصل (علي عزت) إلى حقيقة مهمة وهي أن آفــــــــــــة من تعرضوا لهذا السؤال هي الوقوف بعيدا عن نقطة الوسط. فمما لا مراء فيه أن في الإنسان جانبًا حيوانيا في احتياجاته المادية وفي رغائبه الجسدية، ولكنه من الخطأ تمامًا اعتبار الجزء كلاً، فالإنسان أكثر من الجانب الجسدي، ثم إن دعاة التصوف يزعمون أن الإنسان على حد المقولات الكنسية ما هو إلا ضمير معنوي روحي، وهذا أيضا يصدق بشكل جزئي ولكن الذي يصدق بشكل كلي هو أن الإنسان توليفة من هذه وتلك..
ويؤكد (بيجوفيتش) أن الإنسان ليس مفصلا على طراز (داروين) ولا الكون مفصلا على طراز (نيوتن)، ويقول: الإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهو الصيغة الأسمى للإنسان نفسه.
الإنسان في منظور الإسلام مخلوق كرمه الله، إنه الإنسان المكون من جسد وروح، وهو المسيطر بمنهج إلهي على الطبيعة التي سخرها الله له، وهو في كل هذا يسجد لله وحده، فهو سيد في علاقته مع الله.
ولا تقتصر الرؤية الإسلامية الوسطية في فكر (بيجوفيتش) على ما ذكر من قبل ولكنه يرى أن هناك منظومة فكرية تحرك القدرات العقلية للإنسان إلى ما هو أبعد من العلاقات الطبيعية البسيطة المنظورة لبحث ما وراء الطبيعية، والغرض ليس فك هذه الرموز وإنما اكتساب التواضع والوعي بالجهل بمعنى أن تحول الجهل الذي لا ندركه… إلى الذي ندركه.
وسطية الإسلام:
كما يؤكد (علي عزت بيجوفيتش) على أن وسطية الإسلام يمكن إدراكها من خلال حقيقة أن الإسلام كان دائما موضع الهجوم من الجانبين المتعارضين الدين والعلم، ومصطلح دين يشير به المؤلف إلى معنى محدد وهو المعنى الذي تنسبه أوربا إلى الدين وتفهمه على أنه تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، والدين بهذا المفهوم الأوربي اتهم الإسلام بأنه أكثر لصوقا بالطبيعة والواقع مما يجب، وأنه متكيف مع الحياة الدنيا.
بينما اتهم الإسلام من جانب العلم المادي أنه ينطوي على عناصر دينية وغيبية. ويفند المؤلف هذا الهجوم بقوله في الحقيقة يوجد إسلام واحد فحسب، ولكن شأنه كشأن الإنسان له روح وجسم، فجوانبه المتعارضة تتوقف على اختلاف وجهات النظر نحو الإسلام، فالماديون لا يرون في الإسلام إلا أنه دين وغيب أي اتجاه يميني، بينما يراه المسيحيون فقط كحركة اجتماعية سياسية، أي اتجاه يساري.
الإسلام وإقامة التوازن في حياة البشر:
ويوضح الرئيس (علي عزت بيجوفيتش) حقيقة مهمة من حقائق الإسلام بقوله من أجل مستقبل الإنسان ونشاطه العلمي، يعني الإسلام بالدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه، إن الإسلام هو البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني والبراني أو الداخلي والخارجي هذا هو الإسلام اليوم، وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل، إن الإسلام لم يكن مجرد أمة إنما هو على الأرجح دعوة إلى أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أي تؤدي رسالة أخلاقية.
الإسلام جوهر الحياة:
وفي القسم الثاني من الكتاب يتناول معجزة الإسلام كوحدة ثنائية القطب، ويتناول جوانب من إعجاز كتاب الإسلام في صيغته المكتوبة، وهو القرآن الكريم، ويصف القرآن بأنه حياة ويوضح ذلك قائلا:
إن التعليق الوحيد الأصيل عن القرآن هو القول بأنه حياة وكما نعلم كانت هذه الحياة في نموذجها المتفرد هي حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إن الإسلام في صيغته المكتوبة أعني القرآن قد يبدو بغير نظام في ظاهره، ولكنه في حياة محمد صلى الله عليه وسلم قد برهن على أنه وحدة طبيعية من الحب والقوة، المتسامي والواقعي، الروحي والبشري، هذا المركب المتفجر حيوية من الدين والسياسية يبث قوة هائلة في حياة الشعوب التي احتضنت الإسلام، في لحظة واحدة يتطابق الإسلام مع جوهر الحياة.
القرآن والحقائق العلمية:
وحول موقف القرآن من العلم يقول (علي عزت): لا يحتوي القرآن على حقائق علمية جاهزة، ولكنه يتضمن موقفا علميا جوهريا… اهتماماً بالعالم الخارجي، وهو أمر غير مألوف في الأديان، يشير القرآن إلى حقائق كثيرة في الطبيعة، ويدعو الإنسان للاستجابة إليها، فالأمر بالعلم (بالقراءة) لا يبدو هنا متعارضا مع فكرة الألوهية، بل إنه قد بدأ باسم الله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ)) سورة العلق: آية 1 )
الانسان بمقتضى هذا الأمر لا يلاحظ ويبحث ويفهم (طبيعة خلقت نفسها) ولكن الكون الذي أبدعه الله. وليست الملاحظة بلا هدف أو لا مبالية أو خالية من الشوق، وإنما هي مزيج من العلم وحب الاستطلاع والإعجاب الديني. وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية ويستشهد الرئيس (علي عزت) بالعديد من الآيات القرآنية التي تحتوي على (موقف علمي جوهري) كما عبر هو، ومنها الآيات التالية:
(إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) البقرة 164: (
(إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
) الأنعام :95-99 (
(وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ. وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل 12: -14 (
(أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) الغاشية: 17-20)
يقول (علي عزت) معلقا على تلك الآيات:
في هذه الآيات التي اتجهت بكليتها إلى الطبيعة نجد فيها تقبلا كاملا للعالم ولا أثر فيها لأي نوع من الصراع مع الطبيعة، فالإسلام يبرز ما في المادة من جمال ونبل كما هو الحال بالنسبة للجسم في موقف الصلاة، والممتلكات في الزكاة، إن العالم المادي ليس مملكة للشيطان، وليس الجسم مستودعًا للخطيئة، حتى عالم الآخرة، وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها، صوره القرآن مغموسا بألوان هذا العالم، ويرى المسيحيون في هذا حسية تتنافى مع عقيدتهم، ولكن الإسلام لا يرى العالم المادي مستغرباً في إطاره الروحي.
ويضيف (علي عزت) إن آيات القرآن توقظ الفضول الفكري وتعطي قوة دافعة للعقل المكتشف. قال الله تعالى:
(وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بماء وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ)) الرعد :4 )
هذه الآية الكريمة تستفز الفكر، فهي تطرح مشكلة تكمن في أعماق علوم الكيمياء والنتيجة أن المسلمين هم الذين وضعوا النهاية للجدل الذي دار حول قضايا جوهرية استحوذت على المسيحية عندما اتجهوا إلى الكيمياء، وكان هذا تحولا من الفلسفة الصوفية إلى العلم العقلاني. وفي جميع الآيات التي سبق اقتباسها من القرآن عنصر مشترك وهو الدعوة إلى الملاحظة، وهي فاعلية بواسطتها بدأت قدرة الإنسان على العالم والطبيعة.
أسباب القوة الغربية مستمدة من تراث المسلمين:
ولقد أثبت البحث في أساس القوة الغربية، أن هذه القوة لا تكمن في أسلحتها واقتصادها، فهذا هو المظهر الخارجي للأشياء فقط، وإنما يكمن في الملاحظة والمنهج التجريبي، في التفكير الذي ورثته الحضارة الغربية عن(بيكون) الذي استمد هو بدوره المنهج التجريبي من المسلمين.
تأثير القرآن في تطور العلوم:
ويرى (علي عزت بيجوفيتش) أن المواقف العلمية الجوهرية التي تضمنتها آيات القرآن قد أثرت في تقدم العلوم لدى المسلمين في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية ويعبر عن هذا قائلا:
هذا الاهتمام الفذ بعلم الفلك وبالعلوم الطبيعية خلال القرون الأولى للإسلام؛ كان نتيجة مباشرة لتأثير القرآن. لقد تحول الدين نحو الطبيعة فبدأت مرحلة عظيمة في تطور العلوم، وكان هذا من أعظم الإنجازات التي تحققت في التاريخ، ويضرب مثالا على ذلك فيقول: لقد كان هذا أكثر وضوحا، فيما يتعلق بتطوير علم الفلك، حيث نجد في كتاب (جنسر) تاريخ العلوم الطبيعية حقائق تؤكد فاعلية العالم الإسلامي وإنجازاته في مجال هذا العلم..
ويقول (بيجوفيتش) موضحاً:
وجد المسلمون في وادي الفرات علم التنجيم مزدهرا وقد جمع معرفة هامة عن الظواهر الفلكية عبر ثلاثة آلاف سنة، ولكن لأن الاعتقاد بارتباط مصير الإنسان بالنجوم – وهو ميدان اهتمام علم التنجيم – كان غريبا عن الإسلام، فإن التوحيد الإسلامي والعقلانية الإسلامية استطاعت أن تحول علم التنجيم إلى علم فلك، وقد أنشئت لهذا الغرض مدرسة بغداد لعلوم الفلك وسميت باسم مرصدها الشهير، ويتحدث (سيديلوت )عن ذلك فيقول: كان من أخص خصائص مدرسة بغداد لعلم الفلك منذ نشأتها روحها العلمية بأن تنتقل من المعلوم إلى المجهول عن طريق الملاحظة.
التسليم لله …. هكذا ختم الرائع الراحل على عزت بيجوفتش رائعته التي تغير منحنى الفهم تماما بعد قراءة كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”
بعد أن أبحر بنا على عزت بيجوفتش في أفكار الشرق والغرب وكيف أن الإسلام وسط بينهم فهو في القسم الأول يثبت يقينا كيف أن الإنسان لا يستطيع أن يحييا بغير دين في مقابل المادية اللادينية..” إن ظاهرة الحياة الجوانية أو التطلع إلى السماء – وهي ظاهرة ملازمة للإنسان غريبة على الحيوان – هذه الظاهرة تظل مستعصية على أي تفسير منطقي ويبدو أنها نزلت من السماء (نزولا حرفيا) ولأنها ليست نتاجا للتطور فإنها تقف متعالية عنه مفارقة له. “
يقول:
“أليس الإيمان بالإنسان بدلا من الإيمان بالله, هو شكل من أشكال الإيمان, ولكنة أقل درجة ؟ إن لجوء الماديين إلى الإنسان بدلا من الرجوع إلى الله , يبدو غريبا فى ضوء ما أكده ماركس نفسه عندما قال: إن الأمل فى الإنسانية المجردة للإنسان وهم لا يقل عن الوهم الديني الخالص , وهذا كلام يتسق مع مفهوم المعادلة التي تقول (إذا لم يوجد إله فلا يوجد إنسان أيضا).
وفى القسم الثاني من الكتاب يبين كيف أن الإسلام يقع وسطا بين الدين كفلسفة تخاطب الروح دائما ويريد للإنسان أن يكون ملائكيا وبين العلم الذي لا يعترف بالإنسان إلا بكونه رقما أو شىء مادي أو طاقة يمكن الاستفادة منها.
“إن الدين الذى يريد أن يستبدل التفكير الحر بأسرار صوفية, وأن يستبدل الحقيقة العلمية بعقائد جامدة, والفعالية الاجتماعية بطقوس, لابد أن يصطدم بالعلم. والدين الصحيح على عكس هذا فهو متسق مع العلم. وكثير من العلماء الكبار يسود عندهم الاعتراف بنوع من الوحدانية. وفوق هذا يستطيع العلم أن يساعد الدين فى محاربة المعتقدات الخرافية، فذا انفصلا يرتكس الدين فى التخلف ويتجه العلم نحو الإلحاد”.
وفى النهاية فصل صغير رائع تختم به الكتاب وفى الحلق غصة وحزن فى القلب على إنتهاء هذة الرحلة الممتعه التى بلاشك تغير نظرتك للحياة ونظرتك للإسلام وتعلمك أن تعتز بإسلامك وتحمد الله على كونك مسلما وسطا بين متناقضات.
“كلما نمت معرفتنا عن العالم تزايد إدراكنا بأننا لا يمكن أن نكون أسياد مصائرنا”
“الاعتراف بالقدر استجابة مثيرة للقضية الإنسانية الكبيرة التي تنطوي في جوهرها على المعاناة التي لا مرد لها، إنه اعتراف بالحياة على ما هي عليه وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمل بالصبر، وفي هذه النقطة يختلف الإسلام اختلافا حادا عن المثالية المصطنعة وعن الفلسفة الأوربية التفاؤلية وحكايتها الساذجة عن الأفضل من كل ما هو ممكن في العالمين. ذلك لأن التسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه.”
خلال قراءتي كنت أكاد أسمع نبرة الكاتب الهادئة في طرحه الدالة على عمقه الروحاني والعقلي والعلمي، كنت اتعجب منه واتعجب أكثر من قدرته على التوازن!
الكتاب فلسفي شديد العمق، يحتاج الى كثير من التأني والإعادة والوقوف على افكاره ونقاشاته، كمية كبيرة من المراجع والاقتباسات تثري الكتاب خلال القراءة تستشعرها.. يبحث في الازدواجية بشكل فلسفي رائق، فالازدواجية في اﻻسلام هي العنوان الخفي الموجود في كل فصل، ويقصد بها الجمع بين الطرفين المتناقضين او المتباعدين والتوازن فيما بينهما..
في القسم اﻷول “نظرات حول الدين” يخوض بعمق بين الثنائيات فبين الجواني والبراني، الروح والطبيعة، الانسان المخلوق والانسان المتطور، الثقافة والحضارة ثم في ثنائيات الفن واﻷخلاق وبين الثقافة والتاريخ وبين الدراما والطوبيا.
ثم في القسم الثاني “اﻹسلام: الوحدة ثنائية القطب” يطرح بعض التطبيقات للثنائية في الاسلام وكيف وازنها وجمعها بما يتناسب وثنائية الانسان والطبيعة.
كم أمتعني القسم الأول والتجول بين الثنائيات وخاصة فصل اﻷخلاق، فقد أبدع فيها الكاتب ما جادت به نفسه وفكره من جمال، رأيت الكاتب يستطيل حينا في بعض الواضح من الأفكار ويضرب الكثير من اﻷمثلة، بينما يختصر في بعض معقدها التي تحتاج الى مزيد من التوضيح.
الترجمة متقنة الى حد كبير تكاد منها تظن ان العربية هي اللغة الاصلية للكتاب، لا أنسى التنويه الى ان القارئ بحاجة الى احاطة عامة بالمصطلحات أساسية للفلسفة: كالميتافيزيقيا، الطوبائية، الشيوعية، الرأسمالية، التجريبة وغيرهم.
كثير من الأسئلة تجد جوانبها بين طيات هذا الكتاب، لا شك ان الكاتب استطاع ان يحلل النظريات المتصارعة في هذا العالم ويبرز تناقضاتها مع الطبيعة البشرية، وبهذا استطاع ان يبين وبوضوح مدى اختلاف المنهج الرباني المتمثل بالإسلام كديانة ونظام حكم عن المناهج الوضعية والديانات التي تعرضت التزوير. الكتاب أكثر من رائع ويحتاج الى تركيز عالي لفهم ما جاء به.
الإسلام بين الشرق والغرب، عنوان رائع جداً ومناسب للمنهج الذي اتبعه علي عزت بيجوفيتش في الوصول إلى الاستنتاج النهائي، وهو أن الإسلام ذي الوحدة ثنائية القطب هو الأنسب والأكثر مثالية لحياة الإنسان. المؤلف يعتبر أن وجود الإنسان بكل ما يتضمنه يمكن اختزاله في ثنائية مادية وروحية.
من هذا المنطلق _ الثنائية التي تتحكم في وجود الإنسان_ كان لزاماً أن تصبح اليهودية هي الدين المادي للإنسان والتي تبشر بمملكة أرضية باعتبارها أول رسالة سماوية، ثم لحقها المذهب الروحي الذي يختلف كليّةً عن اليهودية، وهي المسيحية، وذلك لترجيح الكفة مرةً أخرى ناحية الجانب الروحي والتبشير بالمملكة السماوية.
المادية أنتجت مذاهب عديدة، أهمها الماركسيّة، والتي كان لها نصيب الأسد في موضوع الكتاب. والمؤلف وإن انتقد الماركسية بشدة، ولكنه نقد موضوعي جداً ومسترسل ومبني على حقائق. الماركسية باعتبارها مذهب مادي، كفرت بالإنسان كفرد وليس كمُجتمع، وكفرت بالأخلاق والثقافة والفن، باعتبار هذه الأشياء تنتمي للقطب الآخر وهو الوجود الروحي للإنسان. والغريب أنها لم تستطع الصمود عملياً بدون اللجوء إلى بعض الأشياء التي من شأنها أن تهدم النظرية المادية.
المسيحية باعتبارها الوجه المقابل للمادية، كان فيها من المغالاة في المثالية الروحية ما جعلها تنازلت قليلاً ناحية الحياة المدنية والواقعية، كإقرار الزواج بعدما كان مُحرماً والتحوّل المؤسسي للكنيسة وغيره. من هنا كان الإسلام الذي جاء بمادية يهودية وروحية مسيحية مناسباً لوجود الإنسان الذي يحتاجهما معاً نظراً لطبيعته الثنائية.
اقتباسات من الكتاب:
ان المجتمع العاجز عن التدين، هو أيضا عاجز عن الثورة.
ليست الصلاة مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، إنما هي أيضٍا انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم.
من مهام الدين والفن والفلسفة توجيه نظر الإنسان إلى التساؤلات والألغاز والأسرار. وقد يؤدي هذا إلى معرفة ما، ولكن في أغلب الأحيان يؤدي إلى وعي بجهلنا، أو إلى تحويل جهلنا الذي لا نشعر به إلى جهل نعرف أنه جهل.
لماذا يصبح الناس نفسيا اقل شعورا بالاكتفاء عندما تتوافر لهم متع الحياة المادية أكثر من ذي قبل؟ لماذا تزداد حالات الانتحار والامراض العقلية مع ارتفاع مستويات المعيشة والتعليم؟ ولماذا لا يعني التقدم مزيدا من الإنسانية أيضا؟
إذا وجدنا خصوماً للثورة في نطاق الدين، فهم خصوم ينتمون إلى الدين الرسمي فقط، أي إلى الكنيسة ونظامها الإداري الهرمي، أو الدين المؤسسي الزائف. وعلى العكس، فإن الثورة الزائفة أي الثورة التي تحولت إلى مؤسسة وإلى بيروقراطية، تجد دائماً حليفها في الدين الذي تحول هو أيضاً إلى مؤسسة وإلى بيروقراطية. فما أن تبدأ الثورة تكذب وتخدع نفسها حتى تمضي مع الدين المزيف يداً بيد.
تعليقات
إرسال تعليق