تبدأ رواية المفتاح للكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي بمونولوج يخوضه الزوج مكتوبًا برسالة، أنه لم يعد يعبأ بزوجته كوكو، لا يهتم أين تجد «المفتاح» الذي سيغلق به درج مكتبه الذي يخبئ به تلك الرسائل.
للوهلة الأولى يتبادر على الذهن هذا السؤال، لمن يكتب الزوج الرسائل؟ فالرسالة بتعريفها، نصٌ موجه من شخص إلى آخر ليبلغه خبرًا ما، أما رسائل الزوج فإنها مغلقة بمفتاح. لن يصعب علينا أن نفهم الموقف الذي اختاره الزوج في هذه المسألة، فكأنه يسجل روحه منتظرًا أن تسعى زوجته لإيجاد المفتاح وقراءتها، ولن تتمكن من قراءة تلك الروح سوى بإيجاد المفتاح.
- لماذا ستتزوج الشخص الخطأ؟
يتحدى بوتان تراث الرومانسية الغربية التي تحث الباحثين عن نصفهم الآخر بالبحث عبر الحدس، أو أنهم «شعروا» بأن هذا الشخص توأم الروح، ويجادل ببطلان ذلك، فليس ثمة توأم روح بالنسبة إليه. قد نتفق مع بوتان بضرورة تبديل عقلية البحث عن الشريك «الأفضل» والتي لن تنتهي إلى الأبد.
سيظل الباحث عن التجربة الأفضل في حالة من التيه بكل علاقاته، وستكون كل علاقة خاطئة في نظره، فالشريك الأفضل يجب أن يكون أنت وليس سواك.
تقول الزوجة: «بدأت أعتقد أن زواجنا كان خطأ جسيمًا. لا بد أن هناك شريكًا أفضل لي، وشريكة أفضل له أيضًا. نحن لا يمكن أن نتفق في ميولنا الجنسية، تزوجته لأن والديّ أرادا ذلك، واعتقدت طوال تلك السنوات أن الزواج يفترض أن يكون كذلك.»
لذلك، إذا استمر المرء باحثًا عن الشريك الأفضل، لا عجب أن تفشل كل علاقاته، فكل علاقة دخل بها سيرى الأخرى أفضل منها، أو كما يقول جاك لاكان «لا تهدف الرغبة إلا إعادة خلق نفسها، فإذا نالت الرغبة إشباعًا ماتت». فإذا اتفقنا مع بوتان في النقطة الأولى، فسنختلف معه بالثانية. بالأحرى، ليست المشكلة المعاصرة أننا رومانسيون، ولكن لأننا لسنا رومانسيين بما يكفي.
- الرومانسية بما يكفي أو كيف يتواصل الأزواج؟
كما يعبر في الرسائل عن عجزه الجنسي في مجاراة رغباتها الجنسية المشتعلة دائمًا نتيجة فرق السن بينهما، فيقول: "أكثر ما يقلقني أن طاقتي في اضمحلال متعاظم، مؤخرًا صار الجماع يتعبني فأبقى طوال ما تبقى من اليوم مرهقًا متفكرًا».
يعترف الزوج بتلك الاعترافات الجنسية، والتي صدرت في عنوان الرواية في ترجمة أخرى، فكان عنوان الرواية «اعترافات خارجة عن الحياء». علينا أن نسأل أنفسنا في هذا السياق سؤالًا؛ ما هو محل الحياء في العلاقة بين الزوجين؟ يدفعنا هذا السؤال للانعطاف إلى فهم طبيعة العلاقة الزوجية نفسها وتمايزها عن غيرها من العلاقات.
- بين الحياء والمفتاح يتبلور مفهوم الزواج.
وبينما يبارك المجتمع والبيولوجيا الانكشاف الجسدي على الآخر في الزواج كوسيلة لا مفر منها للإنجاب، تنحبس روح ونفس كل زوج في صندوق في بئر عميق يأبى كل طرف على الآخر أن يجده مفتاحه، ويريد ذلك بشدة في آن. فليس الزواج في منظورنا مجرد علاقة جسدية بين فردين، بل هو علاقة انكشاف كاملة، تحكمها الحميمية ويرعاها الحب. فلا علاقة جسدية بين طرفين دون علاقة تواصل روحي بينهما.
تقول الزوجة في رسالة أخرى:
«حسنًا ليفكر كما يهوى، لن اقرأ الرسائل، لا أملك أدنى رغبة للولوج إلى نفسيته أكثر من الحدود التي وضعتها لنفسي، ولا أود للآخرين أن يعرفوا ما يدور بخلدي».
يتطلب التواصل الروحي التعري الكامل أمام الآخر، وغياب الأسرار، والرغبة في معرفة الآخر بصدق، وهو ما يستدعي بالضرورة غياب الرسائل في الصناديق المغلقة، والتحلي بالجرأة والصدق الكافيين لإعلام الآخر بما يدور في خلدنا، وهو ما لم يحدث في الرواية، فقد كانت المرة الأولى التي يرى فيها الزوج زوجته عارية تمامًا دون عائق عندما كانت مريضة ولا تقوى على المقاومة.
كما يتطلب من الآخر توفير البيئة الآمنة لسماع تلك الاعترافات، التي لن تكون في هذا الحال خارجة عن الحياء، بل سيختفي مفهوم الحياء نفسه كشعور غريب عن علاقة حميمة يتماهى طرفاها في كيان واحد يحمل من كل منهما ويعبر عن روح واحدة متحدة.
- الخيانة وحصرية العلاقة الزوجية.
يُستخدم ذلك كمسلمة تنمط التعامل مع الخيانة عبر الجنسين، ولكنها تتغافل كيف نشأ مفهوم الخيانة نفسه، فإذا كان الأطفال والتناسل ما يهم، لماذا تترك المرأة كل شيء إذا تعرضت عاطفتها للخيانة؟
كان «كيمورا» خطيب ابنتهما ضيفًا مستمرًا باعتبار أنه الزوج المستقبلي للابنة توشيكو. ولكنه لم يلعب مسرحيًا دور خطيب الابنة فحسب؛ بل كان عنصر العامل الحفاز في علاقة الزوجين الجنسية. كان الفتى محل إعجاب من الأم، حتى أنها تتفوه اسمه بالخطأ أثناء علاقتها مع زوجها. ما الذي يجعلها تشتهي العلاقة الجنسية مع هذا الشاب، في حين تصف ملامح زوجها وشهواته الجنسية بالمقززة؟
تثير الخيانة مفهوم العهد في الزواج. ثمة اتفاق ضمني بين الزوجين على طبيعة العلاقة الزوجية، بكونها عهد أقامه الزوجان، لإنشاء أسرة، واختراق كل منهما للآخر. تفترض كلمة زوج في اللغة العربية وجود طرفين لا ثالث لهما، على عكس كلمة شريك partner الإنجليزية؛ فقد يكون للمرء عديد من الشركاء، ولكنه لا يتمكن من أن يكون زوجًا لأكثر من فرد واحد.
- الحب والجنس: علاقة متوترة.
تنتزع تلك النظرة من الإنسان حالته الإنسانية، بالإخلاص لشريك واحد، كما أنها تختزل المشاعر البشرية إلى صورة مادية. سيتوقف اتفاقك أو اختلافك مع فرويد على فلسفتك للوجود، هل يبحث الإنسان عن المادة أم الشعور؟ يرى إريك فروم أن الجنس أقصى تعبير عن الحب، على عكس فرويد. فالإنسان يمارس الجنس تعبيرًا عن الحب، وعلى هذا يكون الحب أولًا.
ربما يكون الإنسان كائنًا مميزًا -ولا يشاركه في ذلك سوى الدلافين ربما- الذي يمارس الجنس للمتعة وليس للتناسل فقط. يختلف التناسل الذي ربما يحدث دون تواصل جنسي بين الزوجين، عن الجنس أو الممارسة الحميمية.
تعبر الممارسة الحميمية عن أعماق وخبايا نفسية لدى الزوجين، لا يستحي كل منهما التعبير عنها بفرض توفير الأمان والحب، ولهذا، فإن العلاقة بين الحب والجنس ليست علاقة خطية، كأن أحدهما سببًا للآخر، بل هي علاقة تكاملية، لا وجود لأحدهما دون وجود الآخر.
وكما يقول آلان باديو في كتابه «في مدح الحب» فإن الحب حدث ومخاطرة تتطلب من الحبيبين النمو معًا، يتطلب الاحترام والمعرفة والحوار كما يرى إريك فروم، فإنها في نظري تتطلب التخلي عن الأسرار وخبايا النفوس، والتجرؤ على الانكشاف أمام الآخر، من الطرفين بالطبع، ولن يتحقق ذلك إلا بتوافر الحب والعاطفة والاختيار الحر من الطرفين كل منهما للآخر.
فالبطلة في رواية المفتاح للكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي رغبت بخطيب ابنتها ولم تتقزز من الجنس معه أو تمني ذلك، بينما تقززت من زوجها الذي أُجبرت عليه لأنها لا تحبه، ولأن علاقتهما تفتقر لحالة التماهي بين الزوجين.
- الخاتمة:
تعليقات
إرسال تعليق