بروح شاعرية تنمّ عن عاطفة رقيقة استندت للمنطق والعقلانية والفكرة المستمدّة من عمق التجربة صدّر مالك ابن نبي كتابه في فصلين متعاقبين بأنشودتين رمزيتين متناغمتين وشروط النهضة التي يحتويها المؤلَف، أنشودتين باعثتين للفعل الحضاري تلخصّان حضارة ابن نبي في منطقها العملي و نسقها الأخلاقي الجمالي الفني المتجسّد في الطبيعة ورجلها الأول آدم، إنّها نهضة حدّد لها ابن نبي أصولها من نواحيها الثقافية والاجتماعية والسياسية و الأخلاقية والجمالية، فهل – كما تساءل الدكتور عبد القادر خالدي – تستطيع الشبيبة العربية والاسلامية التي وجدت في ظروف مواتية أن تحرك هذه النهضة التي يعدّ بن نبي داعيها وحاديها ؟
- بطولة فردية وصحوة مؤقتة:
للكاتب مرجعية تاريخية فهو لا يتكلم إلا بمسوغ تاريخي فيقول مستدلاّ:” فليسأل السائل عن مصير القبائل الأمريكية قبل كريستوف كولومب، أين هي؟، لقد أصبحت أحاديث وتمزّقت كل ممزّق، ودفنها التاريخ في طياته، حيث استقرت في ضميره نسيا منسيا “، ويقول مؤكّدا:” التاريخ يقرر أن الشعب الذي لم يقم برسالته، ما عليه إلا أن يخضع ويذلّ “.
انتقل للكلام – بعد ذلك – على نهضة مميّزة كان لها دور في صحوة الشعب، نفخت فيها الكلمة الرشيدة الروح، الكلمة التِي تنبثق منها الفكرة الإصلاحية (فكرة النّهوض)، فتبعث – بعد أن تتغلغل في نفوس الأفراد وتوقظهم – الحضارة من جديد، ميزة هذه الفكرة أنها تنتقل بالشعوب من مجرد مناجاة فردية ( دور البطولة) إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل يؤدّي إلى استيقاظ المعنى الجماعي (حديث الشعب)، ككلمة المصلح جمال الدين الأفغانيّ وكلمة قائد أكبر مشروع إصلاحي في الجزائر عبد الحميد بن باديس، أساس منهجها قول الله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد11).
يقول ابن نبي:” إن الكلمة لمن روح القدس، إنها تسهم إلى حدّ بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إذ تدخل إلى سويداء قلبه فتستقر معانيها فيه لتحوله إلى انسان ذي مبدأ ورسالة”.
من دواعي الإشادة بالفكرة الإصلاحية كونها تحارب الجهل والخرافة الذي هو في حقيقته وثنية، ” الجهل لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما، ومن سنن الله في كونه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم “، وثنية عاشتها الجزائر وقامت نصبها في الزوايا تقبل عليها الأرواح الكاسدة لالتماس البركات زهاء خمس قرون، لم تحطمها إلا الفكرة الاصلاحية التي تمكنت من شدّ زمام النهضة الجزائرية وبث الروح الاسلامية من جديد، بلغت هذه الفكرة أوجها وانتصرت في الجزائر يوم افتتاح المؤتمر الجزائري عام 1936، وهنا تساءل ابن نبي: هل سنمضي هكذا حتى النهاية؟، يبدو أن هذه السنة سنة نضوج الفكرة الإصلاحية واتساعها وإشراق النهضة وبلوغها روح الكفاح والإصلاح الاجتماعي هي سنة انتكاسة وخفوت الإصلاح أيضا في رأي ابن نبي، حيث بدأت تهتز بظهور أصنام ودراويش جدد بأسماء مزوقة بأفكار الزوايا ذات الطابع السياسي تصدق معجزات الصناديق الانتخابية.
يقول الكاتب عن ذلك:” وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، أو قافلة عمياء زاغت عن الطريق فذهبت حيث قادتها المصادفات في تيار المرشحين، وهكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى، كأن الإصلاح قد حطّم الزوايا والقباب من دون الوثن”.
- ما هو مرضنا وما هو مكاننا في دورة التاريخ؟
أطلق الكاتب على هذا النوع الذي يتجه لعلاج الأعراض (بادرة حضارة) ويقول “فالعالم الإسلامي يتعاطى هنا (حبة) ضد الجهل، ويأخذ هناك (قرصا) ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول (عقارا) كي يشفى من الفقر، فهو يبني هنا مدرسة، ويطالب هنالك باستقلالية، وينشئ في بقعة قاصية مصنعا، ولكن حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرء، أي أننا لن نجد حضارة، من أجل هذا يجب أن نعرف المقياس العام لعملية الحضارة، وهو: الحضارة هي التي تلد منتجاتها “.
هذا هو المقياس العام لعملية الحضارة في عين ابن نبي، الحضارة التي تلد منتجاتها وتنطلق من خصائصها الروحية والفكرية، فأي حضارة أيا كانت لن تقدم لنا إلا (الحضارة الشيئية) كما سمّاها وإلى (تكديس) هذه الأشياء الحضارية دون البناء الحضاري المطلوب وهو بالضبط الحال الراهن للعالم الإسلامي.
يقول: “من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلا، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق“، وعلى إثر هذه القاعدة الاجتماعية أكد على حتمية معرفة مكاننا في دورة التاريخ الخاصة بنا (الدورة الاسلامية)، النقطة التي نبدأ منها تاريخنا وندرك أوضاعنا وما يعترينا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم، وهذا يسهل علينا معرفة عوامل النهضة أو السقوط ونستمد الحلول من عمق نسيجنا الثقافي وهويتنا الاسلامية.
يتساءل:” ها نحن أولاء على أهبة سفر، وإن قافلتنا لتشد رحالها، ولكن إلى أين تسير؟ وبأيّ زاد سوف تقطع الطريق؟ “.
- أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة:
يقول عن الحضارة الاسلامية:” كان العرب قبل الاسلام شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة ويذهب وقته هباء، فكانت العوامل الثلاث: (الإنسان، التراب، الوقت) راكدة خامدة مكدسة لا تؤدي دورا في التاريخ، حتى ما تجلت الروح بغار حراء – كما تجلت من قبل بالوادي المقدس– نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة” اقرأ “.
إنه لجدير بالذكر أن هذه الوثبة الحضارية الاسلامية كانت بفضل أناس لا يزالون في بداوتهم (سماهم رجال الفطرة) تغلغلت في كيانهم الفكرة الدينية فهذبت غرائزهم ونظمتها وجعلتهم متحررين جزئيا من قانون الطبيعة يمارسون حياتهم وفق قانون الروح، توجهت أنظارهم إلى ما وراء الأفق، هي وثبة خلاّقة مرحلتها الرئيسية الأولى في مراحل الحضارة دينية بحتة تسودها الروح.
يذكر ابن نبي أن للحضارة انعطافا نتيجة تطور المجتمع واكتمال شبكة روابطه الداخلية فيأتي في هذه المرحلة دور العقل في السير الحضاري لتلبية الحاجيات التي تتولد نتيجة هذا الاكتمال، وهنا تبدأ الغريزة في التحرر شيئا فشيئا بقدر ما تضعف سلطة الروح (انخفاض مستوى أخلاق المجتمع ونقص الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية)، وإن كانت هذه الوثبة المميزة للحضارة حتى بلوغها أوجّها سببها الفكرة الدينية و اتزان العقل فإن مرحلة الأفول (خاتمة الحضارة) يكون بتغلب عوامل نفسية أحط من مستوى الروح والعقل وهي الغريزة عند تمام تحررها (انتهاء الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية وعجزها عن أداء مهمتها في مجتمع منحل ) وهنا تمام (دورة الحضارة).
إن هذه العوامل الثلاث (الروح، العقل، الغريزة) كلها متعلقات نفسية وعقلية لها المؤثر في الحضارة، الروح والعقل في نهوضها والغريزة في أفولها، وهنا يتقرر مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني المؤثر الصالح في كل زمان ومكان:” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (ال رعد11) “.
- أطوار الحضارة:
- فكرة التوجيه في حلّ مشكلة الإنسان:
- توجيه الثقافة:
يدعو الكاتب إلى البحث في عوامل النهضة من جوهر الثقافة الاسلامية، الثقافة الاسلامية كإطار حياة واحدة تجمع العالم والمتعلم، وكصمام أمان تعالج مشكلة الفرد كما مشكلة المجتمع، وكبرنامج تربوي يتخذ منه الشعب دستورا لحياته المثقفة، ألفه الكاتب بعناصر أربع متكاملة مترابطة داعيا إلى توجيهها، عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية، عنصر الجمال لتكوين الذوق العام، منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام، الفن التطبيقي (الصناعة) الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع.
- توجيه الأخلاق:
- التوجيه الجمالي:
- المنطق العملي:
أما الصناعة فاعتبرها وسيلة للمحافظة على كيان المجتمع واستمراريته، وارتقى بمفهومها إلى التوصية بصناعة الفرد الحامل لرسالته في التاريخ.
الانسان وهو في تواصله الاجتماعي مفطور على التعبير عن ذوق الجمال فيه كما هو مفطور على تكوين علائق تخضع لقانون أخلاقي، أي نحن منتجون بذورا أخلاقية وجمالية نجدها في عاداتنا وتقاليدنا أو في الثقافة بكل أجزائها المتماسكة المترابطة المتناسقة مع أخلاق وذوق وتاريخ الشعب، فيقول عن هذه الفكرة: “وبقدر ما تكون هذه الثقافة متطورة فإن البذور الأخلاقية الجمالية تكون أقرب للكمال، حتى تصبح – من ثمّ – القوانين المحددة التي يخضع لها نشاط المجتمع، والدستور الذي تقوم عليه حضارته”.
يعتبر مالك أن هناك صلة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي باعتبارهما – عنده – الموجهين للحضارة وقد صاغ هذه الصلة بعلاقة جبرية: مبدأ أخلاقي + ذوق جمالي = اتجاه الحضارة، هذه المعادلة تحدد أنموذجين للمجتمع بحسب التعامل معها، مجتمع يقوده المبدأ الأخلاقي وآخر يقوده الذوق الجمالي، هذا الاختلاف له أثره فيما ينتجه الفكر في كل مجتمع بل يصل إلى حدّ السيطرة: ” كلّ ثقافة سيطرة هي في أساسها ثقافة تنمو فيها القيم الجمالية على حساب القيم الأخلاقية”، وحد التحجّر والجمود**: ” الثقافة التي تمنح الأولوية للمبدأ الأخلاقي، تكون حضارة مآلها التحجر والجمود، وتنتهي إلى فضيحة صامتة سوداء تتيه في مجاهل تصوف متقهقر يقود جنوده مشايخ الطرق”،** وعلى إثر ذلك حث على تتبع مفعول علاقة (مبدأ أخلاقي – ذوق جمالي) في مركب الحضارة لمعرفة الخلل الذي قد ينتهي في آخر المطاف إلى خلل في توازن الحضارة وفي كيانها.
- توجيه العمل:
ارتقى مالك ابن نبي بمعنى العمل من مجرد وسيلة لكسب العيش إلى توجيهه بمعناه المادي والمعنوي بسير الجهود الجماعية وتأليفها في اتجاه واحد فيقيم كل فرد منهم لبنة بناء لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئته الجديدة ومن هذه البيئة يشتق العمل معناه الآخر (كسب العيش لكل فرد) وبهذا التوجيه الذي يتوحد وتوجيه الثقافة ورأس المال تخلق مجالات جديدة للعمل.
- توجيه رأس المال:
- مشكلة المرأة:
- أثر الزيّ والفن في النتاج الحضاري:
أما الفن فجماله في تأريخه للقيم التربوية ورفعه للذوق الفني للإنسان وجمعه بين الموهبة والعبقرية والجهد الشخصي، لكنه في مسير تأثيره في نهضتنا رأى ابن نبي أنه يدعو إلى الرذيلة أكثر منه إلى الفضيلة، فكانت دعوته في هذا الباب إلى تخليصه من كل ما يدعو إلى تشويه الذوق بوسائل الغريزة الجنسية: “إن هذا ليس من روح الفنون بل هو من باب الجنون، وواجبنا أن نضرب على أيدي أولئك المتبطلين، فلا نسمح لهم بأن يشوهوا ذوقنا الفني باسم الفن، والفن منهم براء”.
- مشكلتي التراب والوقت:
أما عن (الوقت) العمود الثالث في كل ناتج حضاري فيقول ابن نبي أنه في مجال ما يعدّ ثروة كما يعد عدما في مجال آخر، وينتفي معنى العدم عنه حين استيقاظ غريزة البقاء ساعة انتفاضات الشعوب، ” إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت”، والمشكلة المؤلمة في البلاد الإسلامية هو معرفتها للوقت الذي ينتهي إلى العدم لأنها لا تدرك معناه و قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية وقيمة الأعمال التي تنجز في هذه الأجزاء من الزمن، ذهب ابن نبي إلى ما سمّاه (فكرة الزمن) التي يجب أن يعرف المجتمع الاسلامي معناها، الزمن الذي يتصل بالتاريخ ويحدد معنى التأثير والانتاج ويكوّن الفكرة والنشاط والمعاني والأشياء، فكان مقترح الحل عنده تربويا ، ولكن كيف وبأيّ وسيلة تربوية؟
يقول ابن نبي:” إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطا الوقت الهارب! “، فكان حتما أن تكون معرفة قيمته بالتجربة التي ستبني فيما بعد الفكرة الواضحة لقيمة الزمن التي يستخلصها العقل، إنها تجربة إدارة أجزاء الوقت، بإقامة واجبات معينة ومختلفة في ثوانيه قبل دقائقه وفي دقائقه قبل ساعاته، وهكذا تضمن هذه الأجزاء المنتجة عمليا فكرة الزمن في العقل الاسلامي.
يختم ابن نبي الكلام في هذا الباب بهذه الكلمة الآملة**:” وهناك حيث تهدد الصحراء وجودنا، وحيث لا نملك في أيدينا سوى هذه العناصر الثلاثة، سيرى العالم ازدهار حياتنا من جديد، هنالك حيث يخيم الجهل والفقر، سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن والعلم والرفاهية.” **منتقلا– بعد ذلك – للكلام عن عاملين مؤثرين على المشكلات حتى تكون دراسته موضوعية بعيدة عن كل انتقاد محق.
- المعامل الاستعماري والقابلية للاستعمار:
” إن المعامل الاستعماري في الواقع يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهما، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة، وإن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم، فيغريهم بالشعوب الضعيفة ويزين لهم احتلالها، إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية للنوم، ولكن مهما سمعنا تلك الدقات الخادعة تلح على إيهامنا بأنه الليل، فلن نعود للنوم، لقد أصبحنا والحمد لله، ولا رجعة للظلام، مهما حاول الاستعمار، إنه النهار، النهار”.
هذا من ناحية التأثير الخارجي، أما من ناحية الـتأثير الداخلي فقد ذكر الكاتب ما سماه ( القابلية للاستعمار)، التي تُبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه صبغة الحياة التي يفرضها الاستعمار، فهو يترقب منا بطالة يحصل من ورائها يدا عاملة بثمن بخس، وجهلة تقاوم ضد الأمية وحسب، وانحطاطا أخلاقيا كي تشيع الرذيلة بيننا، وشتاتا لمجتمعنا ليدب فيهم الفشل أدبيا، وهكذا تكون العلة مزدوجة، معامل استعماري خارجي ينخر في مجتمعنا ويحطم قوانا الكامنة ومعامل باطني يستجيب للمعامل الخارجي ويحطّ من كرامتنا بأيدينا، فالحل كل الحل – عند ابن نبي- إزاء ذلك بتخلّصنا مما غرسه الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته شعوريا أو لا شعوريا، “إن الاستعمار لا يفعل سوى أن وضع أصبعه على (زُرار) خفيّ، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقا يتحدث فيها، وأقلاما يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له بعلمه وجهلنا”.
في ختام كتابه دعا ابن نبي إلى دراسة الحضارة بالنظرة الشاملة المبرأة من الأوهام الغير مقدّسة للأشخاص والعابدة للوثن حتى نحلّ ما سمّاه (مشكلة التكيّف) بعد أن رأى سيطرة غريزة التشبه والاقتداء التي على إثرها يفقد المجتمع توازنه حيث يأخذ كم من توجه وله كم من نظرة وكم من ذوق وكم من لون وكم من رأي؛ وبهذا التقسيم المنظم والدراسة المنهجية للمشكلات استطاع ابن نبي أن يهيّئ برنامجا حضاريا علاجا للتردي الذي تعيشه الأمة الاسلامية وها هو صوته لا يزال إلى اليوم مناديا لليقظة باعثا للنهضة داعيا إلى الحضارة: ” إن من الواجب أن ألا توقفنا أخطاؤنا عن السير حثيثا نحو الحضارة الأصيلة، توقفنا خشية السخرية أو الكوارث، فإن الحياة تدعونا أن نسير دائما إلى الأمام، وإنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويا، يستغله الرجل الوحيد، بل ليكن سيرنا علميا عقليا حتى نرى أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفقة ولا مظاهر خلابة وليست الشيء الوحيد، بل هي جوهر ينظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها، وقطب يتجه نحو تاريخ الانسانية، وإن قضيتنا منوطة بذلك التركيب الذي من شأنه إزالة التناقضات والمفارقات المنتشرة في مجتمعنا اليوم، وذلك بتخطيط ثقافة شاملة يحملها الغني والفقير، والجاهل والعالم، حتى يتم للأنفس استقرارها وانسجامها مع مجتمعها، ذلك الذي سوف يكون قد استوى على توازنه الجديد”.
تعليقات
إرسال تعليق