تخيل معي أنك في غرفتك، تأكل طعامك، وتراجع عملك، في الوقت الذي تقابلك فيه شاشة عرض كبيرة موكولة بمراقبة جميع أحوالك وتصرفاتك، من لحظة استيقاظك، حتى نومك. ثم تخيّل أنّ شاشات الرصد تلك، موجودة في كل مكان من أنحاء البلاد؛ في المقاهي، ومراكز العمل، وعلى حوافّ الطرقات. وأنّ المطلوب منك أن تعطل قلبك، وعقلك، فلا تفكر، ولا تشعر، لأنّ… الأخ الأكبر يراقبك!
إن رواية 1984 للروائي الإنجليزي جورج أرويل هي رواية من الأدب الديستوبي، أي يتمّ افتراض مجتمع تخيلي، بناءً على مجتمع حقيقي. أو استشرافٍ مستقبليّ، يكثر فيه الفساد والفقر والحرب والكبت، وتستحوذ فيه الأوضاع المزرية على المجتمع.
تمّ نشر الرواية سنة 1949 واعتبرت من أخطر الكتب آنذاك، حيث تم منع تداولها وتقويضها، وذلك بالطبع لاحتوائها على مبدأ الأخ الأكبر الذي سنتحدث عنه بعد قليل. غير أنّها صنفت بعد ذلك ضمن أفضل 100 كتاب أصدر خلال القرن العشرين، وترجمت إلى 65 لغة، وتمّ إنتاج فيلم سينمائي مستوحى منها سنة 1989. واعتبرت تصويرًا عبقريًّا لمظاهر الخداع الحكومي والمراقبة الشمولية، والتّحكم الرهيب في البروليتاريا (عامة الشعب) -وعكسها البرجوازية– وتسخير جميع الوسائل للبقاء في السلطة.
في البداية نحن الآن في مقاطعة إرستريب 1 في أوشينيا، تشمل الرواية ثلاث مناطق محورية: أوشينيا التي تعبر عن الاشتراكية الإنجليزية، وإيستاسيا التي تعكس البلشفية الروسية، وإيساسيا التي تضمّ الصّين.
يعاني المجتمع فيها من الطبقية، شأنُه شأنُ كل مجتمع يسوده التخلف. وينقسم إلى: الطبقة العليا الحاكمة، وطبقة أعضاء الحزب الخارجي الوسطى، وطبقة البروليتاريا الدنيا التي تشمل عامة الشعب الجاهل، غير الواعي.
لكن قبل الحديث عن فلسفة الأخ الأكبر يا رفاق، دعونا نتحدث عن البطل.
يتمّ تسليط الضوء على شخصية وينستون سميث، موظف حكومي، وأحد أعضاء الحزب الخارجي، الذي يعمل في وزارة الحقيقة. ويقوم عمله أساسًا على فبركة المقالات والأخبار وتغيير الحقائق التاريخية، ليجعلها متناسبةً مع تصريحات الحزب الحاكم وموافقةً لأقواله. فإن أتت تلك التصريحات مخالفةً للحقيقة، قام بإعادة تعديلها بما يوافق الواقع. بالإضافة إلى تشويه سمعة الأشخاص غير المرغوب فيهم، أو الأعداء، والتخلص من كل ما يدل على وجودهم المسبق، من صور أو وثائق أو تصريحات، ورمي كل ما يجب التخلص منه في ثقوب الذاكرة.
وينستون الذي يكون دائمًا غير متأكد من تاريخ اليوم، لفرط التزوير والتلاعبات التي قام بها، يقرر فجأة كتابة مذكرات في دفتر خاص. يتردد في بداية الأمر، ثم يغدو ذلك الخوف حرفًا، فكلمةً، فسطورًا طويلة. يكتشف وينستون أنّه ماقتٌ للوضع وكاره للحزب، ويتلمس شخصًا ما ليشاركه ما يشعر به.
كانت أمتع الساعات في حياة ونستون هي تلك التي يمضيها في العمل. صحيحٌ أنّ معظم العمل كان مملًا ورتيبًا، ولكن كانت هناك مهام صعبة ومعقدة إلى حد قد ينسى المرء نفسَه في غمرتها.
لقد كانت رغبة وينستون في الانغماس التام في عمله، نتيجةً للتفكير المزدوج الذي عانى منه، والتناقضات الكثيرة التي حدثت في عقله، والصراعات الداخلية المجهدة. باضطراره إلى أن يحمل الفكرة ونقيضها في آن واحد، وأن يمجد الحزب الحاكم والأخ الأكبر علنًا؛ ويلعنهما سرًّا.
يكتشف بعد مدة أن جوليا التي تروّج للحزب بحماسة وتعصّب، وتشارك في دعاياته وتشغل منصبًا في رابطة الشباب المناهضة للجنس علنًا؛ تحبه وتشاركه في مقت الحزب والحلم بالحرية سرًّا. وتحدث بينهما قصة حب، يتشاركان خلالها الأفكار والتأملات والرؤى، في غرفة منعزلة لا تحتوي على شاشة رصد؛ أو هكذا كانا يظنّان.
فمُنذ أن رأى كلمة أحبك، انبثقت في جوارحه رغبة البقاء على قيد الحياة.
ثم يكشف أمرهما، ويتمّ تعذيبهما بتهمة جريمة الفكر في وزارة الحب (المكلفة برصد المتمردين وتعذيبهم)، وإجبارهما -على غرار كل مجرم فكر- على الاعتراف بأشياء قاموا أو لم يقوموا بها، ليتمّ إرسالهما في نهاية المطاف إلى الغرفة 101. وهي غرفة تحوي أكبر مخاوف المرء، وأبشع ما في العالم بالنسبة له، ممّا يدفعهما إلى حب الأخ الأكبر ولعن التمرد، وخيانة كل مشارك في جريمة الفكر.
وقالت غير مكترثة: “لقد خنتك”، فقال لها: “وأنا أيضًا خنتك”.
كلما ازداد الحِزبُ قوّة ومنعة، قلت درجة تسامحه. وكلما ضَعف معارضو السُّلطة، اشتدّت قبضةُ الاستبداد والطُّغيان.
- ما الذي تعالجه الرواية؟
وأطلق اسم وزارة الحب على التي تختص في التعذيب، وغسل الأدمغة، وترسيخ عقيدة حب الأخ الأكبر. وأطلق اسم وزارة الوفرة على ظاهرة تقليص المواد الغذائية، والتقشف فيها، إلى حد منع القهوة والحلوى. أما وزارة السلام فهي المختصة بالدعاية للحرب، واستخدامها كوسيلة لإخضاع الشعب.
عالجت الرواية كوكبة من الأفكار، ومنها الآتي:
- الرقابة الشمولية.
وتتم محاربة التفكير الحر والفردانية وتعاقب بتهمة (جرائم الفكر). ويمنع أعضاء الحزب من الزواج، إلا بقيود خاصة جدًا، معدومة من أشياء كثيرة أولها الحب. وتتم تربية الأطفال الصغار على مراقبة آبائهم والوشاية بهم، إن كانوا (أعداء) الأخ الأكبر يا رفاق!
- التاريخ يكتبه الأقوياء.
فالقناعات والأفكار تترسخ بناءً على ماضٍ محدد لذلك، فإن التحكم في ذلك الماضي، يتيح التحكم في المستقبل. لذلك، فإن كاتب التاريخ هو صانع المستقبل، لأنه يصيغ أفكار الناس وفق ما يريده.
- القومية:
" إذا لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قويّ، فكلُّ ما هو مطلوب منهم وطنيةٌ بدائية؛ يمكن اللجوء إليها حينما يستلزم الأمر".
- الطاعة العمياء.
هذا الأمر الذي جعل جهود الحزب الحاكم تتجه نحو تقديس الأخ الأكبر بالكامل، وتأليه شخصيته. وجاءت عبارة: 2+2= 5، لتوضح تناقضًا من الواجب تصديقه، وإقناع النفس به، لا لشيء إلّا لأن الحزب الحاكم يرى ذلك!
- السلطة غاية:
فالديكتاتورية التي وضّحها الكاتب في الرواية لم تكن وسيلة لحماية الشعب، أو تحقيق الأغراض والمنافع الخاصة، بل كانت غايةً وجب الحصول عليها، بأي ثمن كان!
- رواية 1984 بين السوفيت والنازيين:
لنكتشف معًا مظاهر ذلك.
- أولاً: الاتحاد السوفييتي.
الرقابة على الصور كذلك، فقد أزيل كل الأشخاص غير المرغوب فيهم أو الذين يوصفون بأنهم أعداء للشيوعية؛ من الجرائد والملصقات واللوحات، ليصبحوا (اللاأشخاص) في رواية 1984.
تبيّن الرواية تشابهًا كبيرًا بين جوزيف ستالين والأخ الأكبر، في سطوتهما على عامة الشعب.
يعبّر التعذيب الذي قامت به شرطة الفكر في الرواية، عن ممارسات الاستخبارات السوفييتية. واستراتيجيات تعذيبها للمعارضين عن طريق الفئران، والغرف المضاءة الفارغة لمدة طويلة، ومنع وضع الأيادي في الجيوب.
فعاليات الكراهية كانت ترجمةً للمظاهرات الدورية والسنوية التي ينظمها الحزب الشيوعي، ويجبر العمال فيها على الاستماع لخطب طويلة، تمجّد السلطة والثورة.
- ثانياً: ألمانيا النازية.
تأسست منظمة شباب هتلر— Hitler Jugend التابعة للحزب النازي، قصد إشباع الأطفال بـ: عقيدة الرايخ وتعليمهم الطاعة العمياء والولاء التام للحزب. والإبلاغ عن كل معاد للسامية الألمانية، وهذا ما عبر عنه أورويل في روايته.
بعد تولي الحزب النازي للسلطة في ألمانيا سنة 1933، قام بحرق أكثر من 25 ألف كتاب في وسط برلين، بحجة أنها منبع الفساد والشر.
الإسقاط العجيب الذي قام به جورج أورويل على الوضع الحالي، ثم استشرافه المستقبلي الذي تجلّى في سياسات أخرى انتهجها الاتحاد السوفييتي فيما بعد؛ جعلت الرواية تحفة أدبية من دون منازع.
تعليقات
إرسال تعليق