كانت أصواتهم تطل من وراء قضبان السجن، كل زنزانة لها ذائقة خاصة، لها بصمة الجُرم، ولكن في الحقيقة أنهم كانوا جميعًا أبرياء. وكان سجنهم (الجُرم الذي لم يرتكبوه)، ولكنهم تشربوه، فصار يقيدهم ويمنعهم من تحقيق ذواتهم.
لم يكونوا يدركون أن أبواب الزنازين مفتوحة، وأن بإمكانهم الفرار، فقد أَلَفوا هذه الزنازين فلم يتصوروا يومًا أن بالإمكان الهرب، وأن لكل منهم حياة رحبة خارج زنزانته.
كيف وقد صنع الزنزانةَ أحباؤهم؟!؛ آباء وأمهات، أو أعمام وخالات، أو معلمون ومشايخ وقساوسة ورموز مجتمعية، صنعوا الزنازين باسم الحب أو المصلحة.
حتى قرر أحدهم يومًا أن يتجرأ ويدفع الباب قليلًا لينفرج، ويدخل بصيص من نور التعافي، ثم تجاسر أكثر وخرج للممر هناك حيث زنازين الألم، ثم غامرأكثر وصاح في المحبوسين أن هناك نورًا خارج الأقفاص، وأن الحياة خارج السجن ممكنة ومكفولة وليست محرَّمة عليهم كما يظنون!
وحينها فُتحت الأبواب ببطء، وخرج الحبيسون، ليلتقوا هناك في الطريق إلى الطريق، في رحلة الهروب خارج السجن.. السجن الناعم!
وفي ذلك الممر نقشوا حكاياتهم مع التعافي وكتبوا قصص تشافيهم على الجدران، وأعلنوا كيفية الهرب لكل من ألقته أقداره يومًا في سجن كهذا.
ومن تلك النقوش كان هذا الكتاب.
“أبي الذي أكره “هو كتاب للدكتور المصري عماد رشاد عثمان، وهو كاتب وطبيب بشري، يناقش فيه دور الصدمات وإساءات النشأة في إعادة تشكيل شخصياتنا، وتأثيرها البالغ على علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين. يتغلغل الكاتب في أغوار النفس البشرية، ويواجه القارئ بصراحة تامة، فتارة يبكيه وتارة يطبطب على الطفل في داخله. الكتاب ليس موجهًا لضحايا الهدر الأسري فقط، بل لمن لا يريد تكرار الأخطاء أيضًا.
- 1- الطفل في داخلك.
يمهد الدكتور عماد للموضوع بأن الأسرة ببساطة هي بيئة احتضان تهدويَّة لقلق مقابلة الوجود، يدخلها الإنسان لتحميه في البدايات لحين اكتمال نمو أدواته الخاصة، التي يتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعال وذاتي. إنها ضرورة تطورية للطفل البشري، وغياب تلك البيئة أو تصدعها لا يهدد بقاءه في طفولته فحسب، بل يعطل نمو أدواته للتعامل مع العالم من حوله.
ولهذا فإن إساءات النشأة تعمل على تجميد النمو في مراحله النفسية الأولى، وتحرم الطفل من تكوين ذاته لمواجهة العالم، فيخرج شاعرًا بالتهديد. ولذا فإن جزءًا أصيلًا من التعافي يكمن في الحصول على علاقة شافية، أو بيئة حاضنة بديلة لترميمه واستكمال نموه، لمواكبة الضغوط والتعامل مع قلق الوجود.
الشخص الأهم الذي تتوقع منه المحبة وتستمد منه تصورك عن العالم وعن نفسك، قبل أن يلقي إليك إساءة لفظية أو بدنية قد لفظك ورفضك، وهناك في البقعة العميقة التي قررنا أن نخبئ فيها الألم والصرخة يسكننا الغضب. لم يكن مسموحًا أن نعبر عنه خشية أن يجر علينا المزيد من الإساءة، لذا تعلمنا الكبت والمواراة، وهكذا فقد استمر الغضب في البروز على السطح لغير أسبابه الحقيقية.
كل منا ببساطة يحمل في داخله طفلًا غاضبًا، وبدلًا من تخفيف استيائه والتعاطف معه، تركناه يخرج في وضع الثورة ويتحكم فينا في نوبة هياج لا ينتج منها سوى الندم.
بالإضافة إلى ذلك، يذكر الكتاب أنه كلما كانت الصدمات مبكرة كان تأثيرها أكثر تجذرًا، وكلما كانت من الأقربين تأصلت في التكوين النفسي أكثر، فحين تسرق منا الإساءة الأمان الداخلي، يحل محله الخوف الدائم، وهنا تنمو بذرة القلق، فحتى بعد غياب الصدمة، يبقى أثرها الشعوري المبهم.
- 2- الصدمات وعمليات الدماغ.
عقولنا مبرمجة على الشعور والتصرف قبل التفكير، وهذا ببساطة يفسر ما يحدث للمرء من أعراض بعد التعرض لصدمة، فعندما يتعرض الشخص لأي محفز من المحفزات التي كانت سببًا في صدمته الأولى كصوت انفجار أو صرخة أو رائحة مميزة أو لون ما، فإن هذه المدخلات تعالَج مباشرة في الجزء الأسفل من الدماغ، وما هي إلا لحظات قبل تفعيل نظام الاستجابة للضغط وتعطيل بقية أجزاء الدماغ؛ وبما أن جذع الدماغ لا يستطيع تحديد الزمن، فإن الشخص يسترجع تفاصيل تلك الذكرى بل ويعيشها بحذافيرها، حتى تصل المدخلات أخيرًا للقشرة المخية ويبدأ الشخص، وبعد جهد جهيد، في استيعاب أن هذا الحدث قد أصبح من الماضي.
لا عجب أن تتغير نظرة الطفل تمامًا إلى الحياة والأشخاص من حوله، وأن تضطرب علاقاته، فالصدمات كما تعيد تشكيل شخصيته تعيد تشكيل دماغه تمامًا.
ما يجب علينا فهمه أن الصدمات ليست مقتصرة على حوادث الفقد والحرب، فقد تنشأ نتاج مواقف أقل صخبًا كالإهانة أو الإساءات اللفظية أو علاقات الوالدين المضطربة أو الاحتراق الوظيفي، وهذا ما يؤكده بروس قائلًا: «حتى عند غياب أحداث صادمة كبرى، فإن الضغوطات غير المتوقعة أو الممتدة لفترات طويلة كافية لجعل أنظمة الاستجابة للضغط لدينا بالغة الحساسية والنشاط ومفرطة في رد الفعل، مما يؤدي إلى خلق عاصفة داخلية».
- 3- الأطفال كأكياس رمل للتنفيس.
تخلط نفوسنا الناشئة بين الله والسلطة الأبوية، فمثلًا قد يؤدي الخلط بين نموذج الأب الناقد وبين الله إلى نشوء ضمير جلاد وصوت خفي دائم الصفع. ولذا فإن كثيرًا من المتعثرين في علاقتهم بالله قد يكون تعثرهم بسبب مشكلات في ارتباطهم بالوالدين، حدث جراءها تحويل انفعالي لغضبهم من السلطة الأبوية إلى الله والدين.
ربما يكون أحد أكثر أنواع الإيذاء نعومة وخفاء، والذي قد لا يحدث بقصد الإساءة، هو إفراغ الأبوين لما يختلج في صدريهما من خيبة وألم تجاه بعضهما ورواية تفاصيل معاناتهما على أسماع الأطفال، خلطًا منهما بين الصداقة والاستغلال.
يتحول الأطفال إلى أكياس رمل للتنفيس، يفرغ فيهم الوالدان كل شحناتهما السلبية، فينشأ الطفل مشحونًا بمشاعر مستوردة، وتحتشد في نفسه أحاسيس دخيلة، ويمتلئ بانفعالات لا ينتمي لها، فيؤدي ذلك إلى الغضب وانعدام الأمان والقلق وغياب الثقة.
يؤكد الدكتور عماد في كتابه أن النشأة تحت سطوة أبوية لا تجعل الأبناء يكبرون ليكرهوا آباءهم، وإنما يكبرون وهم يكرهون أنفسهم.
يكبر كل من تعرض للإساءة من قبل والديه وهو يشعر بأنه غير مستحق للحب وأن أحدًا لا يمكن أن يقبله كما هو، فيفكر لا واعيًا: «الخلل فيَّ أنا»، كجزء من محاولة المحافظة على صورة الأبوين المثالية، إذ لا يمكن أن نراهما على خطأ، لذا فنحن الخطأ.
وهكذا نفهم لماذا لا يستطيع الذين يعيشون وسط أسر معطوبة تملؤها الصراعات أن يحبوا أنفسهم، فقد حدث تشوه في بنية التواصل الوجداني.
يعاني بعضنا من التسلط الأبوي، في محاولة مستميتة باسم التربية والمصلحة لإنتاج طفل بمواصفات قياسية يتحول إلى بالغ منتج بفعالية. يبدأ الطفل رحلة تدريبية مكثفة من «افعل ولا تفعل» و«لازم يتأدب ويعرف إن الله حق»، يستخدم خلالها الآباء الدين والتقاليد مبررًا لما يمارسونه من سلطة على الأبناء.
يتربى الأبناء على القمع والترهيب والنهر في عالم يطالبهم بالمثالية، ويُعاملون كمشروع تفوق يحقق الآباء طموحاتهم من خلاله، أو تُنشأ الفتاة مثلًا على عقيدة العورة حتى تصلها رسالة ضمنية غير ملفوظة تتمثل في أن وجودها بذاته عورة ينبغي إخفاؤها. تصل للطفل رسالة أنه غير مستحق للحب ما لم يصِر شيئًا يطلبه منه أبواه أو المجتمع، وهنا يتخلى الإنسان عن حقيقته ويسعى لصنع ذات مفبركة تتوافق مع مقاييسهم.
- 4- مراحل التجاوز:
تخزن أذهاننا كل الذكريات المؤلمة، وتكرر استحضارها لتحمينا من تكرار الوقوع فيها. وبقدر الألم المرافق لأي حادث، يكون مقدار الإلحاح الدماغي في التذكير به. البوح هو تحرير المشاعر العالقة، وكأننا نخبر عقلنا بأننا نتذكر: «اطمئن، فلا حاجة لمزيد من التذكير». قد يكون البوح عن طريق التحدث إلى شخص نثق به أو معالج نفسي، أو حتى بالكتابة أو الرسم وغيره، ثم إن الطريق المؤدي لتجاوز أي شيء يكون من خلاله، فتجاهل الأمر أو إنكاره أو التلهّي عنه مجرد محاولات تسكين مؤقتة للألم. التعافي يحتم المجازفة بالخروج من منطقة الراحة الزائفة، فلا بد أن تعبر بالآخرين، بالالتحام بهم والانغماس في التفاعل معهم، لأن الحياة ستستمر في السير، والتعافي لن يكتمل سوى عبر مجازفة القفز نحوها؛ ولكي يتم التعافي بصورة مكتملة وسليمة، علينا أولًا أن نفهم مساره وأن نعطي أنفسنا الوقت الكافي للمرور على مراحله الواحدة تلو الأخرى حتى نصل إلى الشفاء التام.
المرحلة الأولى: الإنكار.
يتجلى الإنكار في تجاهل الألم أو ادعاء تجاوزه، بتكوين صورة مثالية زائفة، أو محاولة تبرير المأساة كقول إنها كانت ضرورة تربوية أو أن المرء هو من تسبب بها لنفسه، ما يجعل المحيطين بنا غير قادرين على فهم استغاثاتنا، لأنهم لم يعتادوا طلبنا للمساعدة أو اعترافنا بالضعف.
- المرحلة الثانية: الغضب.
- المرحلة الثالثة: استعادة الذات.
- المرحلة الرابعة: التجاوز.
- الخاتمة:
تعليقات
إرسال تعليق