ورغم أن موضوع "النهاية" لا يطرحه ولا يناقشه أحد في "إسرائيل"، فإنه يطلّ برأسه في الأزمات، وعلى سبيل المثال، حين قرّرت محكمة العدل الدولية عدم شرعية جدار الفصل العنصري، ازداد الحديث عن بداية النهاية، وبعد هزيمة تموز، ازدادت شدة الكابوس أكثر فأكثر.
يقتبس المؤلف الرواية التاريخية التي كانت الهاجس الأول عند الأب المؤسس للكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون، الذي عاش ومات وهو مقتنع بحتمية زوال هذا الكيان بعزائم الأجيال الفلسطينية الجديدة. معروف أن للكيان الصهيوني ثلاثة آباء: حاييم وايزمن وديفيد بن غوريون وناحوم غولدمان. الأول انتزع "وعد بلفور"، والثاني قاد العمل العسكري على الأرض وأمر بالمجازر وبالتهجير بحقّ الفلسطينيين، والثالث نظّم حملات المستوطنين وجمع الأموال ونسج العلاقات الدولية.
- 1- قلق المؤسّسين الأوائل.
أما مضمون هذا البوح فكان في نظر الاثنين بمثابة "سر دولة" يجب حفظه بأمان، بعيداً عن أي كان، إذ هو ينقض بالكامل، بل يدمّر، مرتكزات العقيدة الصهيونية، التي يقوم عليها مشروع "الملاذ الوطني" لليهود، وفق ما جاء في رسالة الوعد المشؤوم. حتى كبار المسؤولين الإسرائيليين لا يجوز أن يعلموا به، إذ هو يبرّر الرفض الفلسطيني المطلق لهذا الكيان، فكيف إن عرف به الآخرون؟!
يروي ناحوم غولدمان الوقائع ويصف بدقة الوضع النفسي لبن غوريون. لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري، فإن سألتني ما إذا كان سيتمّ دفني، في إثر موتي في دولة "إسرائيل" لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتني ما إذا كان ابني عاموس الذي سيبلغ الخمسين من عمره العام (1956)، سيكون له الحظ بأن يُدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك 50/50) ... قاطعه غولدمان مذعوراً: "كيف لك أن تنام على هذا التوقّع". فأجابه: "من قال لك إنني أعرف ما هو النوم يا ناحوم".
- 2- الخطر الديمغرافي.
كذلك لا يمكن الرهان على هجرة يهودية مرتفعة إلى "إسرائيل" ولا على هجرة طوعية مرتفعة للفلسطينيين من بلادهم، ومن غير المتوقّع أن تقوم "إسرائيل" بطرد الفلسطينيين كما فعلت في سنة 1948، لأنّ الظروف مختلفة والمقاومة موجودة، والدول العربية لن تسمح بذلك. (مخططات الترانسفير متنوّعة لكن تطبيقها دونه صعوبات).
وتثير المعطيات الديمغرافية الفلسطينية في جوار فلسطين أيضاً، وليس فقط في فلسطين، قلق "إسرائيل"، إذ يعتبر بعض المختصين: "أنّ عدد الفلسطينيين في ما يطلق عليه الإسرائيليون "أرض إسرائيل التاريخية" التي تشمل فلسطين والأردن، يبلغ 9 ملايين، ومن المتوقّع أن يصل عددهم بعد عقد ونصف العقد إلى ما بين 14 و15 مليوناً، مقابل 6,3 ملايين يهودي في "إسرائيل".
- 3- الهجرة المعاكسة من "إسرائيل".
كذلك ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600 %. وفي هذا النطاق، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخّراً بأن 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في الاتحاد الروسي.
ومن جهة أخرى، أشار مكتب الإحصاء المركزي في روسيا إلى أن 28500 إسرائيلي من أصول روسية عادوا إلى بلدهم الأصلي منذ بداية العقد الماضي، فيما تشير تقديرات السفارة الإسرائيلية بموسكو إلى أن آلافاً أخرى من الإسرائيليين يعيشون في روسيا بموجب تأشيرات دخول عادية، ولم يتقدّموا بطلبات هجرة، ولذلك فإن معطيات مكتب الإحصاء الروسي لم تشملهم. وبحسب معطيات في وزارة الداخلية الإسرائيلية، فإن 775 إسرائيلياً تقدّموا بطلبات للتنازل عن جنسيتهم الإسرائيلية، والعدد إلى ازدياد.
- 4- هجرة الأدمغة.
إنّ نسبة الهجرة وسط السلك الأكاديمي من حملة شهادات "البروفيسوراه"، يصل إلى 6,55%، يتبعهم الأطباء بنسبة 4,8% والمهندسون والباحثون بـ 3%. وقد وجد معدّا البحث أن نسبة الهجرة تسير بشكل طردي مع ارتفاع سنوات التعليم.
- 5- علامات السقوط.
وأظهر البحث أن عدد الفقراء سيبلغ نحو مليون و650 ألف نسمة، لذا عاد هاجس النهاية والزوال، وبعد الصمود اللبناني في وجه الهمجية الإسرائيلية، وبعد إبداع المقاومة اللبنانية في التصدّي، فقد اكتشف الصهاينة حدود القوة. فالانتصارات العسكرية لم تحقّق شيئاً، لأنّ المواجهة مستمرة ما يؤدي إلى ما أسماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون "عقم الانتصار".
يلاحظ المؤلف في كتابه (إسرائيل إلى نهايتها)، أنّ أحد عناوين الأزمة الكيانية الإسرائيلية هو الاقتصاد. وباختصار كانت "إسرائيل دولة (الكيبوتز)" أو التعاونية الزراعية، وتتسم بدرجة عالية من الدفء والتجانس الاجتماعي، ثم أصبحت دولة برجوازية تُديرها الشركات العملاقة ومصانع السلاح والإلكترونيات، وبرزت بالتالي الفروق الطبقية، وصار الركض وراء المنفعة والجاه والصالونات والمتعة شأناً عادياً حتى بالنسبة للجنرالات.
- 6- انحراف وتعثّر في القرارات.
تجدر الإشارة إلى أن كتاب (رسالة للقائد) للكاتب الاسرائيلي الصهيوني المتطرف "يحسكل درور" يشير إلى انحدار في ميول الجيل الجديد وخاصة الشباب في "إسرائيل" نحو القيم اليهودية والصهيونية، وذلك بسبب فراغ الساحة اليهودية من زعماء روحيّين صادقين ذوي قيمة سلوكية عالية مقبولة في المجتمع ولدى الشعب اليهودي. ويؤكد المؤلف هذه الحقيقة في فصل كامل بعنوان (البوصلة الأخلاقية اليهودية والصهيونية من خلال القيم الإنسانية)، حيث يصوّر في هذا الفصل أن الأخلاق والقيم اليهودية في تراجع وفي أزمة، ولهذا فإن التحدي يكون في الحفاظ على يهودية الدولة والأجيال.
وبالنسبة للعديد من علماء الاجتماع وأساتذة الفلسفة في الجامعات الإسرائيلية، فإن "عهد الصهيونية كدين جامع للإسرائيليين انتهى"... "النظرية الصهيونية والقيم المرتبطة بها، التي شكّلت الصمغ للمجتمع الإسرائيلي تحديداً في سنواته الأولى، لم تعد كذلك"... "الرغبة بالتشبّه بالقيم الاجتماعية والسياسية الأميركية باتت الأمر الأساسي المشترك بين الإسرائيليين"...
"عصر العقائدية والأيديولوجيا تراجع أيضاً في إسرائيل لصالح القيم الفردية، ولصالح الخاص على حساب العام، مع بقاء الشروخ الاجتماعية المهدّدة للهوية الإسرائيلية العامة على حالها، وسط استمرار التقاطب بين المتديّنين والعلمانيّين والشرقيّين والغربيّين، والأشكيناز والسفرديم، وازدياد الاستقطاب الطبقي، واستمرار الصراع مع الفلسطينيين مع النقاش الحاد، الذي يخلقه بين اليسار واليمين، ووجود أقلية فلسطينية داخل إسرائيل تشكّل للبعض منهم تهديداً استراتيجياً". هذا التفسّخ في نظرية الدين الجامع لبني "إسرائيل"، له أثر كبير في تزايد الهجرة المعاكسة من أرض الميعاد.
- 7- أزمة المشروع الإسرائيلي.
كما أنّ هناك شعوراً متزايداً بالفساد المستشري، ذلك أن هذا النظام غير قادر على توفير سياسة اجتماعية مقبولة، تقلّل من الفقر وعدم المساواة والبطالة، كما أنه لم يحدث أن أظهر الشارع الإسرائيلي، الأغنياء والفقراء، اليمين واليسار والوسط، احتقاراً تاماً للحكومة كما هي الحال الآن. وتكشف حالة التمييز الطبقي والإثني بين الإسرائيليين دليلاً على حالة من التشتّت والتمزّق والصراع داخل "إسرائيل"، وتنامي تأثير اليهود الشرقيّين السفارديم، وزحفهم نحو قيادة دولة "إسرائيل".
يلاحظ المؤلف، أنّ (الروس المواطنين الذين قدموا من روسيا إلى إسرائيل)، يمثّلون حالة عصية على الهضم والفهم في "إسرائيل"، كما يصفهم تقرير حالة التميّز، فلا هم یهود ولا هـم إسرائيليون غربيون إشكيناز ولا هم شرقیون سفارديم، إنهم فقط "روس" ينتمون إلى المافيا والفودكا والشيوعية السابقة والقيصرية واليهودية الروسية المتميّزة أكثر مما ينتمون إلى "إسرائيل".
- 8- تناقضات منذ قيامها.
باختصار، ثمة تناقضات مستحكمة في "إسرائيل" من نوع التناقض بين العلمانيين والمتدينين، والشرقيين والغربيين والعرب واليهود، وبين كون "إسرائيل" مركز اليهودية أم أحد مراكزها، وبين اليهودية كهوية قومية والإسرائيلية كهوية قومية متعيّنة، وبين أنصار التسوية ومعارضيها.
فوق كل ذلك فإن "إسرائيل" ظلت محكومة بتناقضاتها الخارجية، فهذه الدولة، بسبب طبيعتها الاستيطانية العنصرية، لم تستطع إجراء مصالحة تاريخية مع أصحاب هذه المنطقة (العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً). إذ ظلت تعتبر قيامها حقاً مطلقاً، بتبريرات سياسية وعنصرية. هكذا رفضت "إسرائيل" تحديد حدودها الجغرافية لدواعٍ أمنية، كما أنها رفضت الاندراج في التاريخ الثقافي للمنطقة، برغم أنها مهد الديانة اليهودية، مفضّلة اعتبار نفسها امتداداً للغرب، وجزءاً من حضارته!
- 9- التدمير الذاتي.
"إسرائيل" باتت تفتقد إلى قيادات قادرة على إخراجها من مأزقها، الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة سوداوية، كما أن التماسك الاجتماعي والسياسي ووحدة المجتمع تضعضعت" وقوة الجيش التي تشكّل الأساس في كل ذلك، أصيبت بعطب خطير. حتى الآن أجّلت "إسرائيل"، أو بالأحرى تهرّبت من الأسئلة المصيرية المطروحة عليها، منذ قيامها. وقد نجحت في ضبط تناقضاتها وأزماتها الداخلية والخارجية، لكن إلى متى، من يضمن بقاء هذه المعطيات كما هي، ولا سيما بعد انتصار المقاومة في لبنان وتعاظم الانتصارات في الإقليم، هذا ما يُشكّل هاجس "إسرائيل" الوجوديّ اليوم.
قد تنجح "إسرائيل" في عسكرة مجتمعها وإعادة بناء قوة ردعها، لكن هل يمكن أن تنجح في إعادة ضخ مبادئ بروتوكولات حكمائها وأيديولوجيتها التاريخية، التي قام على أساسها بنیان دولة "إسرائيل الكبرى"، في مجتمع فقد وحدته الفكرية والعقائدية وبات على شفير التشتّت من جديد؟ سؤال في صميم الحلم اليهودي، الذي يُواجه اليوم أكبر خطر وجودي. هذه الأسئلة الوجودية جاءت بعد نفي كل الأساطير، وفرضت الأسئلة الوجودية نفسها من خلال المقاومة على الكيان الإسرائيلي المأزوم.
ومن هذه الأساطير "أرض الميعاد" أو "أرض إسرائيل" و"الشعب المختار" و"النقاء العرقي" و"المحرقة النازية"، وهنا كَبُرَ شعور المحتلين وخوفهم من زوال الكيان المصطنع. كما ازداد شعورهم بالخطر على بقائهم ومصيرهم، وذلك نتيجة تغيير موازين القوى وتداعيات الصراع المصيري. وقد عبّر عدد كبير من الإسرائيليّين عن خوفهم وقلقهم على وجودهم. وبدأوا يشعرون بأنّ "إسرائيل" قد اقتربت من نهايتها وهي "تلفظ أنفاسها الأخيرة". وستزول "إسرائيل" حتماً، لأن العدالة محقّة ولا تزول والحقّ لا يموت.
- الخاتمة:
اللهم يا من لا يهزم جنده ولا يخلف وعده، ولا إله غيره، كُن لأهلنا فى فلسطين عونًا ونصيرًا ومعينًا وظهيرًا.
اللهم حرر فلسطين، والمسجد الأقصى من كيد المعتدين، وكن يا الله عونًا لإخواننا فى فلسطين.
تعليقات
إرسال تعليق