البيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، والمجتمع الإسلامي كان وما يزال يؤكد أنّ المنزل الواحد يُعتبر قلعة من قلاع هذا المجتمع الحصين، فلابد أن تكون هذه القلعة متماسكة من الداخل رصينة في ذاتها راسخة في جذورها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا يُؤتى منها ولا ينفذ الشرّ من خلالها، وإذا لم تكن كذلك سَهُلَ اقتحام الشيطان من بين أضلاعها فيعمل على اقتلاع أغصانها الهادئة وزعزعة أمنها حتى يذرها قاعًا صفصفًا. ومعلوم لدينا أنّ هذا الشيء لا يأتي من فراغ، بل نتيجة اعتقاد جذري يُقِيمه الأساس الذي سوف تُشيِّده مع الشخص القادم إلى حياتك الجديدة، وتنشأ معه في ظل حياة كريمة هادئة، وهو ما يُطلق عليه "الحياة المشتركة". حينما تندمج مع الطرف الآخر في نفس واحدة، وتنسج خيوطًا متبادلة، فإنك ستخلق رقعة متجانسة تكون هي الحياة الزوجية الناجحة، وهذا الأمر لا يتشكّل سوى بالاختيار المناسب.
والآن لنبدأ..
إبراهيم، مثل شبابٍ كثيرين، لم يقع في الحب إلا مرة واحدة فقط في حياته، حب المراهقة ذاك، بعدما تخرج قرر أن يكمل نصف دينه، كان مُعجبًا ببعض الفتيات في الجامعة لكن إعجابه كان أحيانًا مبنيًا على العاطفة وأحيانًا مبنيًا على العقل، يعجبه شكل تلك، لكنه لا يراها مناسبة للزواج، وتلك مناسبة للزواج لكنه لا يرتاح لجمالها، المهم أنه في النهاية بعدما أنهى دراسته الجامعية لم يختر أيًا منهن.
وسارة أخته الصغيرة في السنة الثانية في الجامعة، طلب يدها ثلاثة رجال مناسبون، لكنها رفضتهم، لأنها لم تكن مرتاحة نفسيًا لأي منهم؛ إبراهيم يحتاج إلى معرفة المعايير التي سيختار بها زوجته، وسارة تحتاج إلى معرفة إن كان عدم الراحة النفسية ذاك سببًا كافيًا للرفض.
في مراجعة اليوم سنتكلم عن فن اختيار شريك الحياة، وعن الصفات التي لا بد أن تكون فيه وعما يمكن أن نتغافل عنه.
لكن ثمة سؤال يُحير الكثير من الشباب، سنناقش إجابته أولًا: الزواج السعيد، هل يكون زواجًا عن حب أم زواجًا مُرتبًا أو كما يُدعى "زواج صالونات"
- زواجٌ عن حب أم زواج صالونات؟
إن أحب كل منهما الآخر؛ يطلب الفتى يد الفتاة في بيتها، ويُعقد الاتفاق في الصالون مع الحلويات أو الكعكات التي يحضرها الشاب والعصير الذي تعده الفتاة، وإن كانت مجرد معرفة سطحية فنفس الأمر يحدث، الخلاط هو هو والعصير والحلويات نفسهم، والاتفاقات التي تُعقَد هي هي، لمَ يبدو أن الخيارين مختلفان؟ ربما لِما يُتداول من ارتفاع نسبة الطلاق في أحدهما أكثر من الآخر، لكن الطلاق بالمناسبة لا علاقة له بالحب قبل الزواج أو بعده، بل هو مرتبط بثقافة كل طرف ومعرفته بمعنى الأسرة وفهمه لأعباء الحياة والمسؤولية، وله علاقة بالتفاهم بين الطرفين. والبيت يُبنى على المودة ويُعزَز بناؤه بالرحمة والمودة وليس بالحب، فوجود القبول بين الطرفين كافٍ للدخول في العلاقة، وفي فترة الخطوبة بإمكان كلا الطرفين أن يختبر الآخر جيدًا، وإن لم يكونا مناسبين لبعضهما، فلا بأس، ولا عيب في ذلك؛ والآن سنناقش بعض المفاهيم التي لا بد أن تكون حاضرة في تفكير الشباب والشابات المقبلين على الزواج.
- مفاهيم لا بد أن تعرفها سواء كنت فتى أو فتاة.
المفهوم الأول: نحن مختلفون كبشر: هذا هو أول مفهوم يجب أن نضعه في اعتبارنا، والاختلافات التي نقصدها هي اختلاف الآراء والمعتقدات والطباع، واختلاف طريقة التربية، واختلاف البيئة، وأحيانا اختلاف البلاد.
اختلاف البيئة يظهر في اللهجة والأعراف وطريقة طبخ الطعام ونوع الثياب. اختلاف طريقة التربية يظهر في سلوكيات الإنسان نفسه، ويظهر تأثيرها في تربيته لأطفاله لاحقًا. أما اختلاف الآراء والمعتقدات فجزء منه متعلق بالتربية وجزء منه يكتسبه الإنسان من خلال تعامله مع المجتمع، وكلما كان الإنسان أكثر استقلالية في تكوين رأيه كلما كان أكثر مرونةً وقدرة على تقبل الرأي الآخر وعلى تغيير رأيه إن لزم الأمر. أما اختلاف الطباع فموضوع واسع، لأن طباع البشر كثيرة، والإنسان لا يثبت على حال، لكنَّ بعض الطباع تظل ملازمة له من الطفولة ويصعُب جدًا تغييرها.
الآراء يمكن أن تكتشفها في فترة الخطوبة، والبيئة واختلاف الأسرتين يرجع لاختيارك من البداية، لكن أصعب الأمور التي يمكن أن نختلف بسببها، وهي سبب مهم في ارتفاع نسبة الطلاق، هي الطباع. فإن كان هناك وضوح وصراحة من كلا الطرفين، فحينها نستطيع أن نحدد إذا كنا سنتحمل ونتكيف مع هذه الطباع دون أن نعاير بعضنا بها لاحقًا أم لا.
ماذا لو كان كل شيءٍ جيدًا، لكنك غير مرتاح نفسيًا، فهل سيعني رفضك أنك تجحد النعمة؟
لا، لأن الراحة النفسية هي المعيار الأهم، والدين لا يلوم الفتاة والمجتمع لا يحق له لومها إن رفضت شخصًا جيدًا لمجرد أنها غير مرتاحة له، وذاك أمر لا يستدعي الندم.
المفهوم الثاني: الوضوح: مهم جدًا أن تكون واضحًا وصريحًا وغير متجمل، كن لطيفًا لكن لا تتصنع ولا تتكلف ما ليس فيك ولا تحاول أن تخفي طبعك وأنت متأكد وعلى علم أنك يمكن أن تُرفض بسببه. وأكبر خدعة نقع فيها هي قولنا: "أنا سأتغير بعد الزواج." حسنًا، كل الدعم لمن يعزم على ذلك، وجميل أن ننوي التغيير، لكن من حقي أن أعرف طبعك الآن كي أقرر إن كنت سأستطيع تحمله ومساعدتك على التغيير الذي تريد أم لا.
المفهوم الثالث: من الطبيعي أننا سنتغير بعد الزواج: مثلما تغيرنا قبل بضع سنوات، وكلٌ منا يشعر بالتغيير الذي يحدث في شخصيته في مختلف مراحل حياته، فبدهي أنك ستتغير بعد الزواج أكثر من مرة وبأكثر من شكل وفي أكثر من صفة، لذا فليكن في حسبانك أن هناك أمورًا ستتغير فيك وفي شريكك أيضًا.
المفهوم الرابع: ضرورة التخلص من الماضي: قبل أن نبدأ علاقة جديدة، لا بد لنا أن نتأكد أن العلاقات القديمة انتهت وأننا نسيناها، ونسيانها لا يُقصد به فقدان الذاكرة، بل يُقصد به ألا تؤثر تجربة الماضي عليك سلبًا في الاختيار وفيما بعد الاختيار. التأثير السلبي كأن تعتبر الشخص الجديد الذي سترتبط به هو نفس الشخص القديم.
انسَ الماضي، ومهم ألا تُوهم نفسك أنك نسيته، بينما أنت في الحقيقة ما زلت تعيش ذلك الحب القديم بكل تفاصيله، لا تهرب من الحقيقة كي تنسى شخصًا، تأكد أن الماضي لا تأثير له عليك في وقت الاختيار أو بعده، وتأثير الماضي علينا بعد الاختيار يتمثل في المقارنة، فتقول في نفسك: "الفتاة التي أحببتها في الماضي كانت تتحملني ولم تكن نَكِدة."، وتقولين في نفسك: "الفتى الذي أحببته في الماضي كان يفهمني ويحتويني.".
المفهوم الخامس: معالجة الخيال: أتعرف الصورة التي نرسمها في خيالنا عن شريكنا المستقبلي؟ أرجوك امحها. الواقع لم يعد يحتمل خيالنا، لدينا جميعًا مشاكل وعيوب ونتكئ على بعضنا، فلا ينبغي أن نكون مثاليين في اختيارنا، الكمال لله وحده، وإن عمِلت بفهمك للمفاهيم الثلاثة الأولى التي تحدثنا عنها، ستجد نفسك تختار وأنت ترى العيوب أمامك لكنك تتغافل عنها؛ لأنك تعرف أنك ستستطيع أن تتأقلم معها. المهم أن تكون ناضجًا كفاية لتدرك أنك ستتزوج بشرًا لا ملاكًا.
المفهوم السادس: الحياة ليست وردية: للحياة ثلاثة ألوان: أبيض وأسود ورمادي، وغالب الوقت يكون لونها رماديًا، الرمادي خليط من اللون الأبيض الذي يمثل الاستقرار والسعادة والرومانسية والأمور التي يتزوج أغلبنا لأجلها، والأسود الذي يمثل المشكلات التي تنشأ بسبب عدم تحمل المسؤوليةِ وإهمالِ كل طرف لحَقّ الآخر عليه. فأنت مع شريكك في حياتك الزوجية ستمران بتقلبات بين الراحة والتعب والسعادة والحزن والرومانسية والنكد وهذا طبيعي فلا بد أن تهيأ نفسك لذلك.
المفهوم السابع: الزواج ليس مؤسسةً علاجية: لا تتزوج كي يساعدك شريكك في التخلص من أحد عيوبك، أو كي يُعوضك عن فقد حبيب أو معاملة الأهل السيئة، فذلك أكبر خطأ، لأن هذا يجعلنا نُحمّل شريكنا فوق طاقته ونطلب منه من المشاعر والعاطفة ما ليس مسؤولًا عنه.
المفهوم الثامن: إنه أمر عادي أن نُرفض: أظننا كبرنا بما يكفي لئلا نشرع في البكاء إذا رُفضنا، ولنفهم أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف.
- المفهوم التاسع: لا بد أن نعرف الفرق بين الذكر والأنثى: لأن لا تقول: "إنها لا تتوقف عن الإلحاح، وتريدني أن أكون رومانسيًا طول الوقت!" ولأن لا تقولي: "إنه لا يُشعرني أنني مهمة في حياته، ولا يستطيع تجاذب أطراف الحديث معي!".
بهذا نكون قد تكلمنا عن المفاهيم المهمة قبل الزواج، وننتقل إلى الحديث عن معايير اختيار شريك حياتك.
- ما المعايير التي نختار بناء عليها؟
أي، متى تقول: إنها هي! ومتى تقولين: إنه هو!
للأسف أكثر المعايير انتشارا في مجتمعنا العربي هي: المال والمكانة الاجتماعية، والجمال، معايير كالتدين والأخلاق غائبة بنسبة كبيرة، برغم أن علاقة الإنسان بربه هي الضمان الوحيد لقاعدة "وعاشروهن بالمعروف"، وقاعدة "أو فارقوهن بمعروف" وقاعدة "ولا تنسوْا الفضلَ بينكم". غياب معيار التدين يعني غياب الميثاق والعهد الذي نتعامل به عند الزواج وعند الطلاق وبعد الطلاق. المعايير الدينية موجودة في كتب الفقه لمن يريد أن يقرأ فيها بشكل موسع، لذا سنتحدث أكثر عن المعايير الدنيوية.
أولًا: القدرة على تحمل المسؤولية، وعليك التأكد من وجوده بعد المعايير التي وضعها الدين، ومعيار المسؤولية هذا اختيار عقلاني مهم غفل عنه كثير من الشباب الذين تزوجوا وسرعان ما تطلقوا، إن عرف كل طرف مسؤولياته وحقوقه والتزم بواجباته، ستكون نسبة الطلاق أقل، ومن يعرف ما له وما عليه يكون التعامل معه مريحًا فتكون العلاقة هادئة لا يُسمع لها ضجيج.
كيف نعرف إن كان الشخص مسؤولًا أم لا؟ بأن نسأل عنه قبل الارتباط في مكان عمله أو بين جيرانه، وفي فترة الخطوبة تُبين لنا المواقف.
والمسؤولية هي الجِدية في الحياة، هي قدرة الرجل على مواجهة الأزمات وكونه صاحب موقف، وهي قدرة المرأة على إدارة البيت في عدم وجود زوجها. وأشكال تحمل المسؤولية كثيرة، لكن غالبًا نعرف ذا من خلال الإجابة على سؤال: لمَ تريد أن تتزوج؟
ثانيًا: أن يكون همكما واحدًا، وذلك أمر حاولوا ألا تتنازلوا عنه كي ترتاحوا نفسيًا، عندما يكون لدى شريكك نفس هدفك من تكوين الأسرة، والطريقة التي تريد أن تربي بها أولادك، والهمّ واحدٌ في مسار الأسرة وشكلها المستقبلي، وأحلامكما -العقلية وليس الرومانسية- متوافقة بنسبة كبيرة؛ ستستريحان في علاقتكما وستتعاونان على بناء بيتكما بصورة جيدة.
ثالثًا: التوافق في التصورات الدينية والسياسية، ونقصد بالتوافق في التصورات هنا اتحاد الجهة والغاية، ولا نقصد الاتفاق في كل التفاصيل والمسائل، لا بد أن يكون كل طرف مستقلًا برأيه عن الآخر، لكن الغاية النهائية للرأيين المختلفين واحدة. بعد التوافق، نختبر مقدار التعصب للرأي، لأن التعصب للرأي الديني والسياسي أحد أسباب التفكك الأسري والاضطرابات النفسية عند الأبناء.
رابعًا: التوافق في المستوى الاجتماعي والثقافي، والواقع والتجربة يشهدان أن المشاكل تحدث غالبًا مع وجود فرق كبير في المستوى الاجتماعي والثقافي للطرفين، بعض التجارب تنجح لكن للأسف، أغلبها لا تنجح.
خامسًا: جمال الروح والراحة النفسية، لن نصف جمال الروح لأنك ستستشعره، ولكن حاول ألا تخلط بين الراحة النفسية وبين إعجابك بالجمال والوسامة، لذلك سنجعلها آخر المعايير، قدم عقلك على عاطفتك قدر المُستطاع في قرار الزواج، لأنه مشروع عمر وليس علاقة عابرة.
تعليقات
إرسال تعليق