تأتي أهميَّة هذا الكتاب لمؤلِّفه العالِم الكبير ألكسيس كاريل - بأنَّه بمثابة ثَورة على فُروع العلوم المختلِفة التي كانت إحدى ثِمار عهد الحدَاثة الأوربيَّة، فهذه العلوم رغم أنَّها ساعدَت في تقدُّم الإنسانيَّة، ومعرفة ما هو مجهول من الاكتشافاتِ والابتِكارات التي هزَّت الدُّنيا وغيرَت محتواها، حتى وصل الإنسانُ مبلغًا لم يَكتف فيه بالوصول إلى الغَاية الكبرى في الأرض، لكنَّه أراد أن يَبلغ بعلمِه وفِكره ورؤيته إلى كواكِب أخرى، مع كلِّ ذلك لكنَّها فَشِلَتْ في تحقيق الأَمن والطمأنينة والسَّعادة للإنسان في حياته.
هذا الكتاب ثَورة على العلوم المختلفة من: (طبٍّ، واقتِصاد، وسياسة، واجتماع...)، أَوضح فيه: أنَّ هذه العلوم المختلفة، رغم أنَّها تقدمَت في علوم الجمَاد (العلوم التي اهتمَّت بالطبيعة والكيمياء، وركَّزَت على جانبٍ واحد من جوانب الإنسان)، لكنَّها فشلَت فشلاً ذريعًا في علوم الإنسان (العلوم التي تدرس الإنسانَ على كلِّيَّته، وتنظر إليه على أنَّه كلٌّ متكامِل، وتهتمُّ بمشاعر الإنسان وطبيعته الخاصَّة).
أكَّد ألكسيس كاريل على ضَرورة الاهتمام بعِلم الإنسان، والعمَل على بِناء كلِّ العلوم والمناهِج والنظريَّات على طبيعتِه، وذَكر أنَّ ضرورة ذلك تَأتي من أنَّ علوم الجَماد فشلَت في تحقيق السَّعادة والأمنِ للإنسان.
وهو بهذه المحاوَلَة يدعو كلَّ المشتغلين بالعلوم المختلِفة إلى إِعادة النَّظَر في علومهم، ودَعوتهم إلى التفكِير من جديد في كلِّ ما قدَّموه من إنجازاتٍ واكتشافات.
- معلومات عن المؤلف:
مات في باريس في شهر نوفمبر 1944م.
- أهداف الكتاب:
يقول ألكسيس كاريل: "أحاول أن أضيفَ في هذا الكتاب ما هو مَعروف، بعد أن أفصله بوضوحٍ عن كلِّ مديح، كما أعترف بوجود المجهول غير المعروف، ولقد اعتبرتُ الإنسان ملخَّص الملاحظات والتَّجارب في جميع الأوقات والبلدان.
ويقول أيضًا: "إنَّني لم أهدف مِن وراء هذا الكِتاب إلى أن يكون رِسالة عن الإنسان؛ لأنَّ مثل هذه الرِّسالة تستغرق عشرات من المجلَّدات الضَّخمة، وإنَّني أهدف إلى تَنظيم المعلومات التي لدَينا عن أنفسنا تنظيمًا مفهومًا، وفي موضع آخر يبيِّن أهميَّة الكِتاب بنَقده للمنهج السَّائد في العلوم والمعارِف في عصره، فيقول: "لقد فَتنَهم جمالُ علوم الجماد، إنَّهم لم يُدرِكوا أنَّ أجسامهم ومشاعرَهم تتعرَّض للقوانين الطبيعيَّة، وهي قوانين أكثر غموضًا، وإن كانت تتساوى في الصَّلابة مع قوانين الدُّنيا...؛ فإنَّ الإنسان يَعلو كلَّ شيء في الدُّنيا، فإذا انحطَّ وتدهورَ؛ فإنَّ جمال الحضارة، بل حتى عظَمة الدُّنيا الماديَّة، لن تلبث أن تزول وأن تتلاشى.
ويلخِّص كاريل الهدفَ من الكتاب بقوله: "إنَّ هدف هذا الكتاب: هو أن يَضع تحت تصرُّف كلِّ شخص مجموعةً من المعلومات العلميَّة التي تتعلَّق بالكائنات الحيَّة في عصرنا...، وكثير منَّا يَرغبون في أن يُلقوا عنهم التعاليمَ التي فرَضَها عليهم المجتمعُ الحديث، ولهؤلاء كُتِب هذا الكِتاب، كذلك كُتب لأولئك الذين يَجدون من أنفسهم شجاعةً كافِية ليدرِكوا لا فقط ضرورة إحداث تغيُّرات عقليَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة، بل أيضًا قَلب الحضارة الصناعيَّة وظهور فِكرة أخرى للتقدُّم البشري.
يحتوي الكتابُ على ثمانية فصول، وهي كالآتي:
- الفصل الأول: الحاجة إلى معرفة الإنسان معرفة أفضل:
وأشار كاريل في هذا الفَصل إلى: كيف حورَت العلوم الميكانيكية والطبيعيَّة والكيميائيَّة في بيئتنا، وتحدَّث عن نتائج هذا التغيير وضَرَرِه؛ لأنَّه أُجري دون تقديرٍ لطبيعة الإنسان.
ويَختم كاريل هذا الفصلَ بدعوته إلى: الحاجة إلى مَعرفةٍ أكثر اكتمالاً بأنفسنا.
- الفصل الثاني: علم الإنسان:
وأَوضَح كاريل أنَّ علمَ الإنسان أهم بكثير من جميعِ العلوم الأخرى، لكنَّه أَوضَح بعضَ المصاعِب في طريق هذا العِلم، وأهمها: أنَّ معلوماتنا عن الإنسان معلومات تقديريَّة، وأنَّ صِدق التجارب يَحتاج إلى مجهود ضَخم، قد يَبلغ في مجال معيَّن مرور جِيل، لكي نَحكم على صِدق تجاربنا.
- الفصل الثالث: الجسم ووجوه النشاط الفسيولوجي:
تحدَّث كاريل عن وجوه النَّشاط الفسيولوجيَّة المختلِفة في الإنسان: سطح الإنسان الدَّاخلي والخارِجي، وخلايا الإنسان، وتغذِية الأنسجة، والجهاز التنفُّسي، والعلاقات الكيميائيَّة بين الجسم والبيئة، والجهاز العصَبي، وأسباب المرَض.
ومن أهمِّ الحقائق التي ذكرها كاريل عن الوظائف الفسيولوجيَّة:
• الإنسان به مائتا خليَّة نسيجيَّة.
• مليونان من الميكروبات العاديَّة.
• ألفا مليون من جزئيات الزُّلال.
• أبعاد بدنِنا (كالطول والعرض) تقرِّرها البيئةُ وظروف النموِّ في وقتٍ واحد.
• طبائع الإنسان خاضِعة لشكلِه، وطريقته في شدِّ قامَته، وشكل وجهه.
• الجلد الذي يغطِّي السَّطحَ الخارجي غيرُ قابِل للاختراق بواسِطة الماء والغازات، كما أنَّه لا يَسمح للجراثيم التي تَعيش على سطحه بالدخول إلى الجِسم، فضلاً عن أنَّه قادِر على تَحطيم الجراثيم بمساعدَة المواد التي تفرزها غُدَده.
• الخلايا التي تغطِّيها الخلايا المسطَّحة للشُّعَب الهوائيَّة بالرئتين هائلة، فهي تعادِل ما يقرب من خمسمائة مِتر مربع.
• الغُدد الجنسيَّة لها وظائف أخرى غير دَفع الإنسان لإتيان عمَل من شأنه حِفظ الجنس؛ فهي تزيد أيضًا من قوَّة النَّشاط الفسيولوجي والعقلي والرُّوحي.
- الفصل الرابع: النشاط العقلي:
ويَقترح كاريل وسائلَ لمعالجة الضَّعف العقلي، وأهمها: تغيير البِيئة التي يَنشأ فيها الأطفال، وعَزل الفئات العقليَّة الأكثر تخلُّفًا عن الموهوبين وأصحابِ القدرات، ويؤكِّد كاريل أيضًا على ضَرورة توفير البيئة الصحيَّة للمتفوقين، وأن تعدَّل المناهِجُ الدراسيَّة تبعًا لمستوى الأطفال، بعيدًا عن عمرهم.
- الفصل الخامس: الزمن الداخلي:
ويَختلف الزمن الداخليُّ أيضًا عن الزَّمن الفسيولوجي؛ فالزَّمن الفسيولوجي يَشتمل على سلسلة من جميع التغيرُّات العضويَّة التي يتعرَّض لها الإنسان منذ أن يكون نُطفةً حتى يموت.
وتحدَّث كاريل أيضًا عن طول العمر، وتساءل: هل يمكن تجديد الشباب صناعيًّا؟
- الفصل السادس: الوظائف التنسيقية:
تطرَّق كاريل إلى معنى الأمراض، وأشار إلى المناعَة الطبيعيَّة والمكتسبَة، وأكَّد على إساءة استعمال الوظائف التنسيقيَّة في الحضارة العصريَّة.
- الفصل السابع: الفرد:
- الفصل الثامن: إعادة صياغة الإنسان:
• الجمع بين المادَّة والعقل والرُّوح.
• العمل على تَجميع المعارف المشتَّتة عن الإنسان.
• تجميع معَارِف العلوم المختلِفة بين يدي علماء متخصِّصين في عِلم الإنسان، ومن صفاتهم أنَّهم سيبذلون عمرَهم، وسيضحُّون من أجل إبراز عِلمٍ كامِل عن الإنسان.
• إنشاء معاهِد تَجمع في تعليمها بين الجسم والعقل.
• إنشاء مدارس مؤسَّسة على طبيعة الإنسان الحقيقيَّة.
• تنشئة أشخاصٍ أقوياء وأفراد صالِحين.
• وجوب عَزل الأطفال الموهوبين.
• تحسين النَّسل أمر لا مفرَّ منه للإكثار من الأقوياء.
• يجب الاهتمام بالصحَّة الطبيعيَّة كالاهتمام بالصحَّة الصناعيَّة.
• أن يحدد الجنسان، فيجب أن يكون كلُّ فرد ذكرًا أو أنثى.
• كلُّ فرد يجب أن يُستخدم تبعًا لصفاته الخاصَّة.
• يجب أن يصنَّف البشَر تبعًا لصفاتهم الفرديَّة، وليس على أساس المستوى المادِّي.
• ينبغي أن يُهيَّأ للأشخاص العاطفيِّين والذين يحبُّون الجمال ويبحثون عنه - بيئةٌ خاصَّة، تكون أكثر ملاءمة لنموِّ صفاتهم المميزة.
• معرفة الإنسان، وتَحسين النَّسل، وإحداث تغيُّرات في التعليم والأحوال الاجتماعيَّة تساعد على القضاء على ظاهرة الجنون وظاهرة الإجرام.
• تحرير الإنسان من الكونيَّات التي اخترعها علماءُ الطبيعة والفلَك.
بهذه النتائج المهمَّة ختم كاريل بحثَه عن الإنسان، وهي صرخاتٌ تحمل في مضمونها ثَورة على التعالِيم العصريَّة، التي اهتمَّت بالمادَّة وأهملَت الرُّوح.
- وإلي هنا أهمُّ التعقيبات التي شاهدتُها أثناء قراءتي للكتاب:
2- برغم التقدُّم العِلمي المذهِل، فلم يُعطِ الإنسانَ العصريَّ الأمنَ والرَّاحة، والسبب كما حدَّده كاريل أنَّ العلم الحديث لم يخاطِب أهواءنا، ولم يتوافَق مع ذواتِنا، وأضيف على ذلك: أنَّنا خالَفنا منهجَ الحقِّ عزَّ وجلَّ، فالله وَضع منهجًا ربانيًّا واضحًا، على عِلم كامل بأحوالنا وقدراتِنا ومواهبنا، فإذا ابتغينا التقدُّمَ والنَّهضة في غيره، انتكسنا إلى التعاسَة والشقاوة، وهذا لا يَدعو إلى نَبذ المنهج العِلمي، بل يَدعو إلى وَضع الدِّين وتعاليمِه الصَّحيحة كقائدٍ يسوقنا إلى الحقيقة، وبوصلة تدلُّنا عليها.
3- "إنَّ صحَّة العقل والحاسَّة الفعَّالة والنِّظام الأدبي والتطوُّر الرُّوحي تتساوى في أهميتها مع صحَّة الأبدان ومَنع الأمراض المعدِية ، وكلام كاريل السَّابق يتَّفق كمال الاتِّفاق مع تعاليم الإسلام، وخيرُ مثال على ذلك: ما ورد في قصَّة لقمان الحكيم ووصاياه لابنه؛ فهي دعوة للاهتمام بجَميع جوانب الإنسان: المعرفيَّة العقلية، والوجدانيَّة الشعوريَّة، والمهاريَّة السلوكيَّة.
4- أَوضَح كاريل حقيقةَ الاختلاف بين الرَّجل والمرأة، فيقول: "إنَّ الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تَأتي من الشَّكل الخاصِّ بالأعضاء التناسليَّة، ومن وجود الرَّحِم والحمل، أو من طريقة التعلِيم؛ إذ إنَّها ذات طبِيعة أكثر أهمِّية من ذلك، إنَّها تَنشأ من تَكوين الأنسِجة ذاتها، ومِن تلقيح الجِسم كلِّه بمواد كيميائيَّة محدَّدة يفرزها المبيض، ولقد أدَّى الجهلُ بهذه الحقائق الجوهريَّة بالمدافِعين عن الأُنوثة إلى الاعتقاد بأنَّه يجب أن يتلقَّى الجنسان تعليمًا واحدًا، وأن يُمنحا قوًى واحِدة ومسؤوليات متشابِهة، والحقيقة أنَّ المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرَّجل"[8].
ويَخرج كاريل بنتيجة مؤدَّاها: "فعلى النِّساء أن ينمين أهليَّتهنَّ تبعًا لطبيعتهنَّ، دون أن يحاولنَ تقليدَ الذُّكور؛ فإنَّ دورهنَّ في تقدُّم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب عليهنَّ ألاَّ يتخلَّين عن وظائفهنَّ المحدَّدة"[9].
ما قاله كاريل يتَّفِق مع منهاج الإسلام، الذي أَوضح الاختلافات بين الجنسين بقوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 34]، والقوامَةُ تكلِيف وليست تشريفًا، ومسؤوليَّة وليست أمرًا عارضًا.
5- إنَّ أهمَّ مثالِب العِلم الحديث: اعتماده على الملاحظَة العلميَّة والتجربة الحسِّية في كلِّ مجالاته، وهذا أمرٌ مَرغوب فيه لو أنَّه أعطى للجانب الميتافيزيقي الغيبي أهميَّته، وقد تأثَّر كاريل بهذا العيب، فيقول على سَبيل المثال في الفصل الثَّالث في نِهاية الفِقرة الثالثة عشرة: "إنَّ معرفتنا بالجسم البشري هي في الحقيقةِ أوليَّة في أغلبها...، ومن المستحيل في الوقت الحاضِر أن نَفهم تركيبَه، فيجب إذًا أن نَقنع بملاحظَة نشاطنا العضوي والعقلِي ملاحظةً علميَّة، وأن نسير إلى الأمام بداخِل المجهول دون أيِّ إرشادٍ آخر"[10].
6- من مَثالب الماديَّة الحديثة: أنَّها مجَّدَت الرجلَ الأبيض العصرِي، وجعلَته سيدًا يَنبغي أن يَخضع له غيرُه، وهذه الروح تَحدَّث بها كاريل في مواضِع من كتابه، ومنها على سبيل المثال قوله: "والإنسان هو أَصلب الحيوانات عودًا، والجِنس الأبيض منشئ الحضارة هو أَصلَب الأجناس كلِّها..."[11].
7- اهتمَّ كاريل بالنَّشاط العقلي، وانتقد الأطباءَ والفيسيولوجيين والاقتصاديِّين لإهمالهم هذا الجانِب، يقول كاريل: "إنَّ العقل مخبَّأ بداخل مادَّة حيَّة، يهمِله الفيسيولوجيون والاقتصاديُّون إهمالاً تامًّا، كما لا يَكاد الأطباء يلاحِظونه، ومع ذلك فإنَّه أعظم قوَّة في العالَم"[12].
وصَدق كاريل؛ فإنَّه يؤكِّد ما أكَّده الإسلام من أهميَّة العقل وأهميَّة التعقُّل والتفكُّر، فمادَّة "عقل" منتشرة وسط آيات القرآن الكريم، وهي توحِي بأهميَّته وضرورته للإنسان، فإنسانٌ بلا عَقل - في نَظر الإسلام - غير مكلَّف، ومرفوعٌ عنه الحرَج؛ وذلك لأنَّ الإسلام يَنظر إلى فَقد العقل بأنَّه عاهَة تستدعي التخفِيف.
8- انتقد كاريل فِكرةَ المساواة والاشتراك في الحقوق بالتَّساوي بين النَّاس، فقد انتقد فِكرةَ الديمقراطيَّة؛ لأنَّها تساوي بين النَّاس، والناس بطبيعتهم مختلفون؛ فمنهم الأمِّي، ومنهم صاحب القدرات العقليَّة، كما أنَّ منهم أصحاب العقول الضَّعيفة، ومن هنا كيف نساوي بين النَّاس في حريَّة الاختيار؟
ومبدأ كاريل يرشِدنا إلى مصطلَحٍ تناوله العلماءُ قديمًا، وهو مصطلح "أهل الحَلِّ والعَقد"، وهم مَجموعة مختارَة منتقاة، ذات صِفات معيَّنة، يستطيعون إبداءَ آرائهم لإرشاد المجتمَع إلى الحقِّ والخير.
وفي نهاية ذلك العرض أقول: إنَّ كتاب "الإنسان ذلك المجهول" صَرخة قويَّة لإخراج الإنسانيَّة ممَّا هي فيه، وهو ثَورة على مثالِب العِلم الحديث، الذي تقدَّم في كلِّ شيء ما عدا الإنسان، الذي صَنع هذه الحضارَة وقادَ نهضتَها.
تعليقات
إرسال تعليق