رغم مرور البشرية بالعديد من الكوارث، وتطور معرفتنا بكيفية عملها، إلا أن الإنسان لا زال يتجاهل هذه المعرفة أو يسيء استخدمها، ويتضح هذا بالطبع بشكل أكثر وضوحًا في الوقت الحالي. حاول نيال فيرغسون Niall Ferguson دراسة الكوارث من خلال كتاب “الهلاك: سياسة التعامل مع الكارثة Doom: The Politics of Catastrophe“، أو كما وصفه “تاريخ عام للكارثة”.
وعلى الرغم من أنه مستوحى من جائحة “كوفيد-19” إلا أنه ليس عنها، ولكنه كتاب عن تاريخ الأوبئة والنكبات التي مرت على الإنسان بما في ذلك الحروب والمجازر وأضرارها، وتحليل كيفية استجابة المجتمعات المختلفة للكوارث وتعاملها معها، والتي قد تضاعف الأضرار الناجمة عنها.
كتاب الهلاك Doom يفحص بشكل علمي الكوارث معتمدًا على التاريخ والاقتصاد وعلم الأوبئة وعلوم الشبكات، فهو لا يتناول فقط كارثة واحدة أو نوعًا واحدًا من الكوارث، بل يتناولها جميعًا، متنقلًا بينها، لإظهار أنها كلها مترابطة بعنصر مشترك: استجابة الإنسان، وعلى وجه الخصوص الحكومة.
فرغم مرور البشرية بالعديد من الأوبئة، وتطور معرفتها بكيفية عملها، وكذا تطور العلم، إلا أن الإنسان لا زال يتجاهل هذه المعرفة أو يسيء استخدمها، وأعطى مثالًا بتعامل حكومة ترامب مع جائحة كورونا وضعف استجابتها وكفاءتها في مواجهة هذه الكارثة.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسية، أولها وثانيها ذوي طبيعة سردية للنكبات والكوارث عبر التاريخ، مع تحليلها، والتركيز على دراسة علاقة البشرية بها. أما القسم الثالث فيناقش جائحة “كوفيد-19″، بينما الجزء الأخير فهو عبارة عن توقعات حول الكوارث المستقبلية وكيفية استجابتنا لها.
- تاريخ الكوارث وأنواعها:
وباء الطاعون أمر طبيعي، لكن الخسائر التي يتكبدها تختلف باختلاف الظروف الاجتماعية والإجراءات الحكومية واستجابة المواطنين. أو عندما ترك جبل فيزوف، على سبيل المثال، مدينة بومبي أنقاضًا محترقة، في انفجار مروع، لم يستغرق الأمر وقتًا حتى تتحول المدينة المدمرة مرة أخرى إلى مرتع تجاري مزدحم وصاخب.
أو عندما اجتاح الطاعون الأسود أوروبا في القرن الرابع عشر، انتقلت مجموعات من الجلادين من مدينة إلى أخرى، محاطين بالكنائس، وهم يجلدون أنفسهم بأسواط جلدية شائكة ذات رؤوس حديدية. لقد رأوا المرض كعقاب إلهي ودعوا بحرارة من أجل إطلاق سراحهم من قبضته، بينما ساعدوا في انتشاره في جميع أنحاء الأرض.
على العكس من ذلك، فالحروب من صنع الإنسان، وبالطبع، هناك الكثير من الدمار الذي ينتج عنها. لكنها قد تكون ناتجة عن تأثير الأحداث الطبيعية على الاقتصاد الوطني أو المحلي: قد تؤدي سلسلة من المحاصيل الضعيفة إلى نشوب صراع أهلي -انتفاضات الفلاحين، على سبيل المثال- أو العدوان بحثًا عن موارد جديدة، وبالتالي تخلق ظروفًا تؤدي إلى المجاعة أو تؤدي إلى انتشار الأمراض الفتاكة.
وقد يكون الإنسان متواطئًا في المعاناة الجماعية والتي قد تظهر ناتجة عن أسباب طبيعية، كما حدث عندما اجتاحت الأنفلونزا الإسبانية الثكنات والخنادق قرب نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد تسبب الفيروس في زيادة عدد الجثث مقارنة بالرصاص والمدفعية.
وبالمثل، يمكن للسياسات الرهيبة أن تصنع كارثة طبيعية، كما حدث عندما أدت سياسة التجميع لستالين إلى المجاعة في أوكرانيا واستمرارها لسنوات نتيجة القمع.
- مواجهة البشرية للكوارث:
ينظر نيال فيرغسون عن كثب إلى وباء الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1920، وأوجه القصور في معالجتها -على الرغم من أن الكاتب لم يأخذ بعين الاعتبار محدودية المعرفة الطبية في ذلك الوقت- كما قارن بين استجابة الولايات المتحدة الأمريكية لوباء الإنفلونزا الآسيوية عام 1957 والذي أثر في الغالب على الشباب، وفشلها أمام جائحة “كوفيد-19”.
وكان أحد أسباب نجاحها في الوباء الأول هو زيادة كفاءة البيروقراطية الأمريكية في ذلك الوقت أكثر من الآن، فلم تبذل أي جهود تقريبًا تجاه الحجر الصحي وأنماط التباعد الاجتماعي. قد يكون أيضًا أن المجتمع الأمريكي قد اكتسب الخبرة بسبب الحرب العالمية الثانية وبالتالي كان أكثر استعدادًا للاستجابة لتوجيهات الحكومة وأكثر صرامة مما هو عليه اليوم، على الأقل في الولايات المتحدة.
وفقا لفرغيسون، في كل كارثة، يكون هناك شخصية كساندرا التي تنبأت بالكارثة القادمة، تمامًا كما حذرت كساندرا الحقيقية شعب طروادة من هجوم المحاربين اليونانيين الذين كانوا يختبئون في حصان طروادة أثناء احتفالهم بالانتصار على اليونانيين. ومع ذلك، تجاهل شعبها تحذيراتها.
في عام 2015، تولى بيل جيتس دور كساندرا في إخبارنا بأننا لسنا مستعدين للوباء القادم بعد تجاربه في التعامل مع وباء إيبولا في غرب إفريقيا. بهذا المعنى، إنه اقتراح فريد من نوعه أن العديد من شخصيات كساندرا كعلماء الأوبئة، سيتم تجاهلهم إلى حد كبير بسبب عدم قدرة عامة الناس على فهم التحذيرات قبل الكوارث.
- جائحة “كوفيد-19”.
وقد حمّل المسؤولية للنظام الإداري الغربي في ضعف استجابة هذه الدول مع الجائحة وغيرها من الكوارث التي وقعت خلال القرن الفائت، فنظريته حول أن فشل استجابتها بسبب ضعف النظام وليس ضعف القيادة، مبنية على وجهة النظر التي عبّر عنها تولستوي في روايته الحرب والسلام لشرح الأحداث العظيمة، المسماة بـ “مغالطة نابليون”، حيث تعتبر أن الكوارث توضع تحت أقدام قائد واحد، بينما في الواقع، حسب رأي فيرغسون، يشكل القادة “محاور” داخل شبكات معقدة، وعندما تتواصل هذه المحاور بكفاءة مع بعضها البعض، تكون النتائج جيدة. لكن عندما يتعطل الاتصال أو تكون المعلومات غير دقيقة، فإن سلسلة من الإخفاقات تؤدي إلى جعل الكارثة أسوأ بكثير.
أحد دروسه الختامية للوباء الحالي، أن تفشي وباء “كوفيد-19” من الصين إلى باقي أرجاء العالم، والاستجابة الرديئة بوجه عام من جانب السلطات الأمريكية للوباء، قد تسبب في خلق الظروف المثالية أمام اشتعال الاضطرابات والاحتجاجات؛ والملاحظ أن الوباء كان له تأثير أكبر على الأقليات، خاصة الأمريكيين من أصول أفريقية. كما أن عمليات الإغلاق، التي أحدثت أضرارًا اقتصادية كبيرة، كان يجب تجنبها لصالح تدابير محددة وهادفة بدقة أكبر، من بينها الحجر الصحي على الأشخاص ناشري المرض على نطاق واسع والذين يتفاعلون مع أشخاص أكثر بكثير من غيرهم وبالتالي يلعبون دورًا مهمًا في نشر المرض، وبالتالي فإننا بحاجة إلى بناء بنية تحتية مؤسسية يمكنها تعطيل الشبكات الاجتماعية في أوقات الطوارئ لوقف العدوى.
الكثير من توقعات المؤلف بخصوص جائحة “كوفيد-19” لم تكن صائبة، وربما بسبب تعجل الكاتب في نشره مؤلفه، قبل ابتكار التطعيم ضد الفيروس، وقبل ظهور الموجتين الثانية والثالثة من الجائحة، وقبل تحورات الفيروس التي تم اكتشافها مع مطلع العام 2021. وباعتراف المؤلف، فإن قسم جائحة “كوفيد-19” في الكتاب غير مكتمل وعرضة للتفنيد من خلال أحداث ما بعد النشر.
- الكوارث المستقبلية والحرب الباردة الثانية.
في حين يتناول الجزء الثاني من القسم الرابع من الكتاب، المخاطر المتوقعة على العالم بأسره من صراع الولايات المتحدة الأمريكية مع دولة الصين، أطلق عليها مسمى “الحرب العالمية الباردة الثانية”، والتي بدأتها الصين منذ سنوات، لعزل والتقليل من سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية.
وذلك من خلال التحركات الصينية سواءً من خلال مشروع طريق الحرير وإنفاقها لمئات المليارات من الدولارات لشراء ولاء قيادات ودول متفرقة في أنحاء العالم. ومحاولتها لبسط سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، أو من خلال أفعالها العدوانية في هونغ كونغ وتايوان، فكلها تمثل استعراضًا للعضلات لما سيأتي لاحقًا.
يرى فيرغسون أن هذه الحرب لم يبدأها ترامب، وإنما تولدت عن طموح الصين، تحت قيادة “شي”، وأن وباء “كوفيد-19” تسبب في تصعيد هذه الحرب، وكشف النقاب عنها بوضوح أمام أعين من شككوا في وجودها منذ عام فقط.
تضمن كتاب الهلاك ما شعر به المؤلف نيال فيرغسون من عدم ثقة الأمريكيين في حكومتهم، وأن العالم الآن يعيد التفكير في جدارة القيادة الأمريكية، وتناقص حضور الولايات المتحدة الأمريكية في مسرح الأحداث العالمية، وذلك من خلال استبيانات واستطلاعات رأي معدة خصيصًا لقياس ذلك.
من وجهة نظر فيرغسون، فإن استجابتنا للوباء تظهر أننا، في الغالب، لم نستفد من تجاربنا السابقة مع الكوارث. فالعالم الذي بنيناه أصبح مع مرور الوقت منظومة معقدة لمختلف أنماط السلوك العشوائي والعلاقات غير الخطية، مما قد يدفع الحكومات والمجتمعات إلى إساءة تقدير المخاطر، أو تجاهل تحذيرات المختصين أو حتى التعثر في محاولاتهم لتنظيم استجابات ذكية تحت الضغط، مما يجعل الكوارث أسوأ بكثير مما يمكن أن تكون عليه وقد تقود إلى أنماط أخرى من كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وتزداد جهود إدارة الكوارث صعوبة بالنظر إلى حقيقة أن أنظمتنا السياسية تدفع نحو الأدوار القيادية أشخاصًا يميلون على نحو خاص إلى تجاهل التحديات سالفة الذكر.
تعليقات
إرسال تعليق