"لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وأن محمدًا مخادع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة".
يحاول توماس كارليل في كتابه هذا شرح معنى عبادة البطولة وأسباب تقديس العظماء على مر العصور، فيبدأ بالقدماء وعقيدتهم الوثنية وصولًا إلى وقته المعاصر ضاربًا أمثلة مختلفة بأسلوب بياني بديع.
- لمن هذا الكتاب ؟
لمن يريد أن يعلم هل القيادة فطرية، أم مكتسبة؟
لمن يريد التعرف على سير بعض عظماء التاريخ.
- معلومات عن المؤلف:
- البطل عند الوثنيين.
وأول أبطالنا هو أودين الذي عبده قدماء السويد والنرويج منذ ثمانمائة عام، حيث كانوا ينظرون إلى البطل على أنه الإله، وهذا أقدم أشكال البطولة، وسر الوثنية التي رأت البطل إلهًا هو إفراط العجب والاندهاش من الشيء وإجلاله حتى تصير نظرتهم إليه نظرة تقديس وعبادة، فكان كل شيء في نظر أولئك الأقدمين رمزًا إلى شيء إلهي أو إله، وهذا ما كان في طاقتهم مما توافر لهم من عقلٍ وفَهم، وعبادة الأبطال أشرف أركان الوثنية وأكرم عناصرها، وترى الآن ولاء الصغير للكبير الذي هو روح المجتمع فرعًا من عبادة الأبطال، فهذه العبادة أساس المجتمع وما يقوم عليه التواصل بينهم.
وجوهر هذه الوثنية الإيمان الصريح بقوى الكون، واعتبارها آلهة شخصية، حيث كان الفكر بدائيًّا، وذهب المؤرخ "سنورو" أن أودين كان أميرًا وفارسًا في بقعة بقرب البحر الأسود، وله اثنا عشر تابعًا كلهم سيد عشيرته، بعد أن ضاقت بهم بلادهم ذهبوا ناحية الشمال بعد أن فتحوا تلك الأقطار، وأنه اخترع الحروف الأبجدية والشعر وغيرهما، ثم آل الأمر إلى أن اتخذه سكان اسكاندينافيا إلهًا معبودًا واعتبروا أتباعه أبناء له وآلهة.
إن هؤلاء الوثنيين كانوا يرون الموت في غير مواطن الحرب عارًا، ولو أحس أحدهم باقتراب الموت أحدث جراحًا في بدنه تقربًا لـ"أودين"، وكان الملوك إذا أشرفت منيتهم أمروا بأن يُجعلوا في سفن ثم ترسل إلى اليم تدبُّ في خشبها نار بطيئة الحركة، فإذا هبَّت الريح تأجَّجت هذه النيران ويلقى البطل حتفه بوحشية قاسية ولكنها شجاعة.
- محمد (عليه الصلاة والسلام).
كان محمد (عليه الصلاة والسلام) صادق النية جادًّا، مخلصًا قبل أي شيء، بل الإخلاص أول خواص الرجل العظيم، وأول أسباب عظمته، فهو لا يفخر بإخلاصه أبدًا، ولا يسأل نفسه أهي مخلصة، أم لا؟ يرى الوجود حقيقة كبرى تروِّعه وتهوله حقيقتها، حيث لا يستطيع الهروب، ويرى الموت حقًّا كالحياة، ويرى الكون مدهشًا مخيفًا، وهذه الحقيقة وإن فارقت معظم الناس لا تفارقه، وقوله ليس مأخوذًا من رجل آخر، ولكن صادر من لباب حقائق الأشياء، فهو رسول مبعوث من الأبدية المجهولة برسالة إلينا.
وقد كان العرب أمة وثنية يفضل أفرادها قرض الشعر ويقيمون أسواقًا له، ولم يكُ يؤلِّف بينهم حلف علني إلا التقاؤهم بالكعبة حيث يربطهم الدم واللغة، وعاشوا دهورًا طوالًا هكذا خاملي الذكر غامضي الشأن، حتى أتى محمد (عليه الصلاة والسلام)، وهو الذي لم يتلقَّ دروسًا على يد أستاذٍ مطلقًا، ولم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، ولم ينهل من علم غيره، فكل أحواله تدلُّ على أن ما أتى به ليس من اختراعه، أو نقلًا عن غيره، بل هو وحي ألقي إليه.
فرفع (عليه الصلاة والسلام) من شأنهم بين الأمم وخلد ذكرهم، فقد أتى بالإسلام وهو تسليم الأمر لله والإذعان والسكون إليه والتوكل عليه واليقين بأن القوة في الخضوع لحكمته والرضا بقسمته أيًّا كانت في الدنيا أو في الآخرة. وقد اختلط هذا الدين بالدم والعروق وسار بسرعة شديدة زلزلت أركان العالم وغيَّرت خريطته، فأزال الملل الكاذبة والنحل الباطلة وأتى بالحق الخالص.
- البطل الشاعر:
فينظر الغافلون إلى الكون على أنه شيء عادي تافه هامد كأنما هو شيء جامد تولَّى صنعه النجارُ والحداد، أما النبي والشاعر فينفذان له ببصيرتهما، والفرق بينهما هو أن النبي تناول الخير والشر من وجهة الخير والشر والمحظور والمباح، وتناوله الشاعر من وجهة الجمال والحسن والجلال، فأحدهما يهدينا إلى ما نفعل، والآخر يدلُّنا على ما نعشق، وهما في هذا متداخلان لا يمكن الفصل بينهما، وهناك شاعران وإن لم ينالا منزلة الألوهية فقد اقتربا من منزلة التقديس والولاية وهما دانتي وشكسبير إذ لا مثيل لهما في الشعراء.
أما دانتي فولد في فلورنس بإيطاليا وثقِّف على أحسن نظام، وتلقى من العلم الكثير وأصبح أحد القضاة الأكابر وهو في الخامسة والثلاثين، وبينما هو في هذا النعيم ثارت فتنة نُفي على إثرها وكتب له بسببها الشقاء الطويل، ما جعله ينسى فلورنس وينظر إلى عالم الآخرة بجنته وناره وكتب ملحمته الشهيرة "الكوميديا الإلهية" بدم فؤاده التي تشعر فيها بالوزن الموسيقي يطَّرد في جميع لفظها.
وإذا كان دانتي صوَّر باطن القرون الوسطى؛ فقد صوَّر لنا شكسبير حياتها الظاهرة الخارجية وما بها من فروسية ونجدة ومروءة ومطامع ومطامح وأساليب دنيوية للتفكير والعمل والرأي، ومن أسباب عظمته براعته في تصوير الأشياء والأشخاص، وتمثيل الحقائق كما هي دون تحريف أو تحوير بالإضافة إلى الحكمة والعظة والعبرة والشجاعة والمروءة والصراحة والصدق، والعقل الكبير أولى مواهب الشاعر، أما القوة التي تمكِّنه من النظر إلى باطن الأشياء فليست بصدفة ولا نتيجة عادة، ولكنها أولى مزايا الرجل العظيم.
- الأبطال الثلاثة:
ومن هذه الوجهة يكون هناك كتاب ثلاثة أبطالًا وهم جونسون وبارنز وروسو، وثلاثتهم عانوا الفقر وضيق الحال، وقد كان لهم آفتان وهما عدم النظام وإلحاد القرن الثامن عشر وكفره، فالآفة العظمى هي ما ساد ذلك الزمن من شلل الأرواح وموت النفوس والأخلاق، وما كان فيه من كذبٍ وعدم إخلاص، وخلو جوه من الروعة والعجب والعظمة.
ولا عجب أن لم ينل أحد هؤلاء الثلاثة النصر المبين بسبب هذه الظروف، فجونسون مثلًا لم يكن مصابه مقتصرًا على فساد الروح، بل وفساد النظام والفقر الذي حبس رزقه عند قرشين في اليوم، إلا أنه كان شريف الطبع يلتهم كل ما يقابله من فوائد، وكان بطلًا شاعرًا بما يعرب عن معانٍ شريفة، فقد قدم الخير للعالم رغم المكاره التي تحيطه.
أما روسو فهو بطلٌ مشوَّه إذ كان يعوزه الصبر والصمت ورغم هذا نذكره لوجود أولى صفات البطولة فيه وهي الإخلاص، وقد أظهر الحقيقة في عصره بما كتب عن العقد الاجتماعي وغيره، ووجدت الثورة الفرنسية إنجيلها في كتاباته، أما بارنز فبطل كبير في زي فلاح، من أكبر نوابغ البريطانيين في القرن الثامن عشر، وشعره على ما فيه من قوة شيء يسير من كنوز فضله، وحديثه المرتجل كان أبدع من شعره، فكان أعجوبة القوم، وكان نافذ البصيرة، كامل المروءة، صاحب همة سامية، ولا يعزينا عن شقاء هؤلاء الأبطال أنهم لم يخلوا من إجلال بعض الناس لهم.
- البطل ملكًا.
وأعقل الرجال هو أقواهم وأكرمهم وأبرهم وأرحمهم وقوله الفصل وليس فوق نصحه نصح، ولو تأملت لعلمت أن أصل كل فتنة وتاريخ كل ثورة سببه تولية الرجل العاجز، فالكذاب يجلب من على شاكلته وكذا الخائن، وتراهم الآن يحاولون الاستغناء عن الأبطال الأفذاذ بالجماهير العديدة المتساوية، بحجة الحرية والمساواة وأنه ليس لرجلٍ أن يسود ويقود، وأن الزعماء والقادة قد ظهر فسادهم، وحسبنا منهم ما كان.
وهذا المذهب فيه جانب من الحق وليس الحق كله، فهذا لم يكن إلا بسبب انتشار الأمثلة الزائفة التي جعلتهم يعتقدون أن المثال الحقيقي غير موجود، ولكن الحقيقة أن إجلال الأبطال في كل زمان ومكان، وليس مقتصرًا على إجلال الملوك والسادة والقادة، بل يمتد حتى انحناء الرجل لأخيه بالسلام، وقد ظهر كثيرٌ من أبطال العصور الأخيرة في الثورات على أنهم ثوار، ولكنهم أبناء النظام بالفطرة.
وهذه الفوضى التي يعمدون إليها ليست إلا لإصلاح الفاسد وخلق النظام وتنسيقه وإحكامه، وقد كانت أشد أعمال الثورة الفرنسية فوضوية وعنفًا تسير بالبلاد إلى النظام، وما دام هناك أناس كنابليون أو كرمويل ستتحول الفوضى إلى نظام لأن الإمارة والسلطة إن انمحت في زمن السلطة وعادت في شخصٍ من هؤلاء ظهرت الحقيقة وبان جوهرها، وهو أن الأبطال ما زالوا موجودين، وتاريخ نابليون وكرومويل آخر أصناف البطولة وتاريخها، والناظر في تاريخهما يرى ما يعيد عهد الملوك، ومعه البطولة لأنه يرى كيف تنشأ الإمارة، وكيف كان الملوك يولون يومئذٍ.
- وختامًا:
تعليقات
إرسال تعليق