وبالرغم من اللغط الكثير في المناحي العلمية والدينية والأدبية بشأن هذا المرض، إلا أن إنكار وجوده أصبح صعباً للغاية، خاصةً وأن النّاجين منه أصبح لديهم الجرأة على الخوض في تفاصيل معاناتهم، ومشاركتها مع العامة، لتتكون فكرة بسيطة جداً عن حجم المأساة التي يعيشها ضحايا هذا الاضطراب الخبيث.
أحد النّاجين، ويليام ستايرون، قرر كسر الحاجز حول هذا الموضوع الشائك، وقام بالحديث عن تجربته بالتفصيل في سيرة شخصية مختصرة، نُشرت لأول مرة عام 1989 بعنوان: ظلام مرئي أشعل هذا الكتاب العديد من الردود المتباينة بعدها، معظمها كان يثني على الكاتب لجرأته وتفانيه في طرح موضوع حساس بشكل لائق وقصصيّ.
- ظلام مرئي - مذكرات الجنون.
بالرغم من أن هذا ليس اختصاصه العمليّ، إلا أن خبرته الشخصية مع العديد من العلاجات، والمراحل المعقدة والمتطورة التي مرّ بها اكتئابه، جعلت منه أمثولة للعلاج الناجح والفعال، وعدم اليأس أو القنوط أمام شدة المرض وانقطاع السبل.
ولعلّ أحد الأسباب التي قد سمعتها عن نفور البعض من قراءة كتابٍ كهذا هي تسمية الكاتب بمذكراته “مذكرات الجنون”، حيث يصف معظم المرضى أن أعمق مراحل مرضهم تبدو كأنها تُفقدهم تواصلهم مع الواقع، وتجعلهم أشخاصًا فاقدين للإرادة، يراقبون حياتهم كمتفرّج وهي تمرّ أمام أعينهم، دون أن يجدوا في أنفسهم القدرة على تغيير أي شيء أو إحداث أي فارق.
- كيف يكون الظلام مرئياً؟
بهذا الشكل، يصف ستايرون غياهب الإحباط التي يصل إليها مريض الاكتئاب. من خلال عدة قصصٍ واقعية، يبدأ ستايرون بتوضيحه فترة بداية مرضه، ظنّاً منه أن السبب هو تعاطيه لعقاقير منوّمة معينة خلال فترة إقلاعه عن شرب الكحول. يقوم بعدها بوصف الأيام التي استوعب فيها أنه ينزلق في حالة ذهنية مشوشة فريدةٍ من نوعها.
عندما قام ستايرون بزيارةٍ لباريس، ليقوم باستلام جائزة تشينو ديل دوكا تكريماً لآخر أعماله الأدبية، كان يرى أنها فرصةٌ ذهبيةٌ للتخلص من الحزن والإحباط غير المفسّرين اللذين كان يمرّ بهما. ولكن ما إن وصل إلى باريس، حتى بدأ ستايرون يدخل في دوامة من انعدام النوم، والشعور بعدم الراحة، وآلام جسدية ونفسية تعتريه، بالرغم من أنه في رحلة إجازة، يفترض خلالها أن يستلم جائزة ترفع من معنوياته وتقديره لنفسه.
- المرض الصامت:
لم يكن مقدّمو الجائزة، ولا عائلته ولا وكيله ليتفهّموا حجم السوداوية التي تحيط بمريض الاكتئاب، والتي تضع أمام عينيه زجاجاً قاتماً، يجعل كل شيء يبدو باهتاً من وجهة نظره. اضطرّ ستايرون للاعتذار عن مأدبة العشاء التي كانت تقام على شرف الفائز بعد حفل التكريم، بسبب التشوش الذهني الذي كان يعاني منه، ونسيانه تماماً هذا الحدث المهم.
- الفنّ والاكتئاب.
هكذا وصف ستايرون في كتاب ظلام مرئي معاناته مع القراءة والكتابة في ظل الاكتئاب الذي اجتاح حياته لسنواتٍ عديدة، حيث أنّه وصف فترات الاستراحة من الضباب الذهني بأنها سمحت له “بترف التركيز”. هذا الفراغ الذي كان يمكن للإنسان ملؤه بأي انشغال مفيد، هو فراغ أكبر حجماً لدى مريض الاكتئاب، لأنه يجد نفسه مكبّلاً غير قادر على التركيز في مهمة محددة، أو الاستمتاع بأي من الهوايات أو الأشغال التي كان يجد فيها المتعة سابقاً.
يضيف ستايرون في عدة مواقف أفكاراً وأقوالاً لأدباء معروفين كانوا يعيشون صراعاً مع هذا المرض، ويقدّم أمثلةً للعديد من الأدباء والفنانين الذين عاشوا أو رحلوا ضحيّةً للحزن المرضيّ الذي يجتاح حياتهم ويعطّل كيانهم بأكمله.
ومن الواضح أيضاً أن أحد أسباب تكرار هذه الظاهرة بين الأدباء والفنانين هي كون الفنّ تعبيراً عن أعمق مشاعر الإنسان، وأكثرها عصياناً للقواعد اللغوية والبشرية، فيشعر العقل المبدع برغبةٍ في الخروج عن المألوف لتوضيح شعور يبدو خارقاً وغير اعتياديّ. ولربما كان هذا أحد أسباب تأثر ستايرون بكتّاب عدميين مثل ألبيرت كامو Albert Camus وغيره ممن قاموا بدمج فنّ الرواية بالمونولوج الذي يمثل صراع البطل مع نفسه أكثر من أي شخصيةٍ أخرى.
- عجز العلم.
ولكن هذا النمط شائع جداً لدى كل من يعانون من الأمراض النفسية، حيث أنه يواجه خوفه من تضخّم المعاناة وتفاقم المشكلة في داخله، عن طريق العيش في حالة إنكار لفترة قد تطول أو تقصر.
ولكنّ ستايرون سرعان ما خرج من دائرة الإنكار إلى دائرة التقبل والعلاج، حيث أنه سارع لأخذ عدّة آراء لدى عدّة أطبّاء مختصين، وقَبِل أن يكون موضع اختبار وتجربة لعدة علاجات وفقاً لعدة مدارس. يصف ستايرون في منتصف كتابه المشاعر المتقلبة التي تصاحب كثرة التجارب، وأمل الغريق الذي يتعلق بقشّة عند كلّ تجربة. ولكنّ الأمور لم تكن تبدأ بالتحسّن حتى تعود لما كانت عليه.
- النهاية أم البداية.
عندما يصف ستايرون هذه المرحلة، يسهب في شرح اللحظة التي كان فيها على وشك إنهاء حياته، ويتحدث عن الأفكار البشعة التي كانت تراوده مراراً وتكراراً، فتحوّل كل أداةٍ في منزله إلى طريقة محتملة للموت.
ولربما كانت أحد أسباب وصول ستايرون إلى هذه المرحلة هي خلوّ علاجه من أي وجودٍ حقيقي للدعم النفسي الممنهج. فلأن الشخص المكتئب غالباً ما يبدأ دماغه بخداعه، فإنه بحاجة ماسة إلى شخص متخصص يعرف تماماً طبيعة هذا المرض، وكيف يجذب مريضه إلى أرض الواقع مرة أخرى. ويبدو أن هذا ما كان يفتقده ستايرون في طبيبه النفسي، فكان لا يجد في كلامه أي نوع من المواساة، وكان كلامه أجوفاً، خالياً من المعنى أو الأثر في نفس مريضه.
إضافةً إلى كل ما سبق، فإن ستايرون يصف مرحلةً يشعر فيها بالرغبة في الانسحاب من العلاج، وأخذ الطريق المختصر نحو الهاوية، إذ أن الاكتئاب يجعل في نفس صاحبه ثقباً أسود، يمتص كل ما بداخل الإنسان من طاقة، فيجعله غير قادر على القيام بأبسط المهام. لذلك يصل ستايرون إلى مرحلة لا يرى فيها أملاً من العلاج، ويتباطأ تقدمه نحو أي اتجاه.
أصبح للموت الآن حضور يومي في حیاتي، وأصبح يھبّ نحوي محمّلاً بدفقات ھواء باردة. لم أكن أتصور على وجه الدقة كیف ستكون نھايتي. وباختصار، كنت لا أزال أبقي فكرة الانتحار بعیداً. ولكن كان واضحاً أن الانتحار قد بات قاب قوسین أو أدنى بالنسبة إليّ، وأنني عمّا قريب سوف ألتقیه وجھاً لوجه.
كانت أولى خطواته تجاه هذا المسار هو التخلص من المفكرة التي يدوّن فيها أفكاره المبعثرة، حيث يستعيد الكاتب تفاصيل هذا المشهد بدقّة بالغة، تُشعرك كأنك على وشك أن تسمع دقّات قلبه العنيفة. قام بعدها بإعادة كتابة وصيته، وحاول كتابة رسالةٍ وداعية لأيّ من أحفاده القادمين، واستعدّ تماماً للرحيل، دون أن يُشعر أحداً ممن حوله بذلك.
وفي الساعات الأخيرة التي حددها لإنهاء كل شيء، سمع ستايرون صوتاً من التلفاز، قام بتفجير ذكريات ومشاعر لم يكن يجد أي أثر لها منذ وقت طويل. قد يقول البعض إنه التدخل الإلهي، وقد يقول آخرون إنها ردة فعل الجسد الذي وجد نفسه على حافة الهاوية، يصرخ صرخة استغاثة أخيرة لينجو. في صبيحة اليوم التالي، أيقظ ستايرون زوجته، وقام بحزم أمتعته ليتم إدخاله إلى المستشفى.
- الخاتمة:
ولأن الحياة البشرية بطبيعتها قد تسبب الإجهاد، فإننا قد نجد عزاءنا فيمن وُضعوا موضع اختبار مشابه لما قد نمرّ به، فنعرف أنهم قد نجوا ووصلوا إلى الجانب الآخر، فينكمش شعور الوحدة ويعقبه شعور بالأمل والقوة.
تعليقات
إرسال تعليق