القائمة الرئيسية

الصفحات

عن غزو البلهاء لوسائل التواصل | ملخص كتاب تأملات في ثقافة رديئة - د. يوسف الحسن


بالتأكيد سيكون مصير كتاب "تأملات في ثقافة رديئة" للباحث والدبلوماسي الدكتور يوسف الحسن مصير كتاب "تغير العالم" للمفكر أنور عبد الملك، ومصير كتاب "الحرب الحضارية الاولى" لعالم المستقبليات مهدي المنجرة اللذين انحصر نشر كتابيهما في بعض الأقطار العربية.

فلو كان هذا الكتاب صادراً عن مفكر غربي لقامت الدنيا ولم تقعد ولترجم إلى لغات عديدة ولكتبت عنه أهم الصحف العالمية. فيا للأسف ذنب يوسف الحسن أنه عربي، ولهذا لن يحظى كتابه بالاهتمام نفسه الذي حظيت به الكتب الغربية الأخرى التي أحدثت ضجة عالمية ونقاشاً كبيراً، وعلى رأسها:
تدهور الحضارة الغربية" للفيلسوف أوزوالد إشبنغلر
"موت الثقافة" لصاحب نوبل الأديب فارغاس يوسا
و"مجتمع الفرجة: الإنسان المعاصر في مجتمع الاستعراض" للفرنسي جي ديبور"
"الإنسان العاري" لمؤلفَيه "مارك دوغان" و"كريستوف لابي"
و"ثقافة التفاهة" للفيلسوف الكندي اَلان دونو.. وغيرها من الكتب المهمة والأساسية.

وهذا الكتاب يوضح كيف تمكنت الثقافة الرديئة ومسوّقوها من إغرائنا بقبول "تسلياتها" النمطية السلبية والرخيصة، وتشجيعنا على الإغفاء بدلاً من التيقظ والتركيز، واللامبالاة وإشاعة البلاهة بدلاً من الوعي والتفكير النقدي، وإغرائنا بالنظر إلى ما هو مبتذل ومقيت وغير مقبول وغير خاضع للقواعد الجمالية والمعايير الأخلاقية الإنسانية والذائقة السوية، وكأنه حتمي وضروري، ومنسجم مع "الموضة" والعصر.

ويتحدث الحسن بمرارة عن أن دراسة الرداءة وتحليلها أصعب من دراسة الجودة، إذ للرداءة ألف وجه ووجه، وتتطلب دراستها وقتاً وجهداً ومتابعة وتحليلاً موضوعياً لأنماطها وفرضياتها وانحيازاتها وغاياتها وتأثيراتها..".

يقول الحسن إنه "يكشف الغطاء عن ثقافات رديئة، وعمن يلام على تغذيتها، ويروي حكايات حول أبعاد ومخاطر هذه الثقافات الرديئة من ثقافات الفساد والاستعلاء والكراهية على أنواعها، بمعنى أنني فتحت في هذا الكتاب غطاء صندوق بندورة في الميثولوجيا الإغريقية، وخرج منها في الأعماق كل هذه الشرور، لكن يبقى الأمل لدى الإنسان في تغيير هذه الثقافات الرديئة إلى ثقافات جيدة ونافعة للإنسان والحياة".

يتطلع الحسن إلى أن يكون هذا الكتاب محاولة لتفسير المعاني والاَثار السلبية للرداءة وأنماطها الثقافية وظواهرها.
حين تبدأ بقراءة الكتاب "تأملات في ثقافة رديئة"، وتجد أن الفصل الأول معنون بـ “ثقافة التفاهة"، يقفز إلى ذهنك أنك أمام كتاب لا يقل قيمة عن كتاب "ثقافة التفاهة" للفيلسوف الكندي اَلان دونو، الذي يمكن أن نعده أحد مراجع الكتاب.

تشكل فصول الكتاب تفسيراً سردياً لمصطلح "ثقافة رديئة" من خلال العناوين التي عنون بها الحسن فصول الكتاب كاملة. وكأن الكاتب يقول لنا إن "الثقافة رديئة" تعني: "ثقافة التفاهة"، "ثقافة الاستبداد"، "ثقافة الفساد"، "ثقافة الاستعلاء"، "ثقافة الكراهية"، "ثقافة الوعي الزائف"، "الثقافة التويترية"، "ثقافة الاعتذار المقلوب"، "ثقافة البلادة السياسية"، "ثقافة طغيان الوهم على الواقع"، "ثقافة غفلة العقل"، ثقافة الأساطير اللاهوتية التعصبة"، "ثقافة الاستيطان"، "ثقافة فراخة التكفير"، "ثقافة حوار الطرشان"، "فيروسات ثقافة الحرب"، و"ثقافة "المحلل" المستعار.

يقول الحسن: "في عام 2017 أصدر الفيلسوف الكندي اَلان دونو كتاب "ثقافة التفاهة"، وترجم إلى العربية ونشر عام 2020، فتحدث عن "موت السياسة" أو تفريغها من المعايير الحاكمة لها، الخالية من أي مضمون، وطالبنا بــ"ألا نأخذ العالم على محمل الجد" وخصوصاً حينما يسيطر التافهون من أصحاب الفكر الضحل على مواقع مؤثرة في المجتمع، فيغيب الإبداع والنقد، وتُهمش منظومات القيم، وتنحدر قيم العمل وتنتهك كرامة الإنسان وحريته".

يقول الحسن: في ظل البيئة الرديئة يتحول التافهون إلى رموز، وبخاصة في عصر تكنولوجيا الإعلام والتواصل والمجتمعات الافتراضية، وما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانيات غير محدودة في النشر والتأثير في الثقافة والوعي.

ويضيف: صارت التفاهة.. صناعةً لها نجومها وزبائنها واَلياتها.. فملايين "المشاهدات" و"الإعجابات" التي قد تكون أحياناً مشتراة... وكم شاهدنا كيف أدت تغريدة سياسية واحدة إلى تصنيف صاحبها محللاً سياسياً وإستراتيجياً أو خبيراً أو أكاديمياً مخضرماً.

ويبيّن الحسن كيف أضحت الكتب العلمية والأدبية قليلة الرواج ولا تغطي تكاليفها، وصار الوسم (الهشتاغ #) أهم وأقوى من الاستطلاع العلمي، أو بمعنى أن الكم أهم من الكيف، وأن الديمقراطية مقدمة على الحرية والعدالة وسوى ذلك.

ويتطرق الكاتب إلى رواية "ثرثرة فوق النيل" لصاحب نوبل الروائي المصري نجيب محفوظ التي كانت بمثابة جرس إنذار يحذر من كارثة، وبخاصة حين تضيع بوصلة المبادئ والانتماء لدى المثقفين والنخب، فقد عبرت ثرثرات أبطال الرواية عن عمق التفاهة السائدة.
وفي نهاية الفيلم، يصرخ أحد الأبطال وهو يسير وسط الشارع ويهتف بأعلى صوته قائلاً: "يا ناس فوقوا (استيقظوا)... كفاية حشيش".

ينتقل الكاتب إلى الحديث عن ثقافة الاستعلاء التي تغذّي الفرد والمجتمع بشعور الغطرسة والغرور والتعالي أو العنصرية... وتبدو نماذج هذه الثقافة ساطعة في التاريخ.

يورد المؤلف بعض الحكايات التي لا تزال معشعشة في ثقافة أحفاد هذه المركزية الأوروبية. ومع أن هؤلاء الأحفاد عاشوا في شرقنا العربي والخليج أكثر من أربعة عقود فإنهم لا يزالون يعيشون في ذهنية شركة الهند الشرقية وأمجادها. ويذكر الحسن واقعة حدثت معه عندما كان يحضر مؤتمراً عقد قبل بضعة أعوام في أبو ظبي، حين قام صحافي من أحفاد شركة الهند الشرقية بالدفاع عن تركتها وذيولها وسادتها ومصالحها، وبرؤى استشراقية متعالية تلوي الحقائق وتزوّر تاريخ المنطقة.

ويروي الحسن في كتابه أنه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي التقى الراحل إدوارد سعيد في واشنطن في جلسة حوارية حول الجالية العربية في أميركا، وكيفية تصحيح الصور النمطية السلبية عن العرب، فحدثه سعيد عن ثقافة لا تزال سائدة في الغرب تختزل العالم غير الأوروبي في وضعية ثانوية أدنى مرتبة. وقد شهد الكاتب كيف قادت صحيفة "نيويورك تايمز" هجمة عاتية على المفكر الراحل الدكتور علي المزروعي لجرأته كأفريقي على صناعة مسلسل سينمائي حول الأفارقة، وكيف لا تزال أفريقيا تعاني إرث الاستعمار الأوروبي.

يتحدث المؤلف عن "الوعي الزائف": فإذا غاب الوعي لدى الإنسان يصاب بحالٍ من التعس والخوف، وفي أحسن الأحوال يصل إلى حال من اللامبالاة أو القنوط. ويوضح أن كثيراً من أيديولوجيات الحروب فيها الظاهر والخفي. والظاهر هو المعلومات الزائفة التي تؤسس وعياً زائفاً، في حين أن الخفي هو الهدف أو الأهداف الحقيقية التي تضفي على الحروب والقتل دلالات زائفة أخلاقياً وقانونياً للاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وتتشكل نفسية الفرد المقهور بتأثير ثقافات التسلّط والفساد والرداءة وبغسيل المخ وتكرار الكذب وشيطنة الحقيقة.

ويذكر الكاتب كيف أثار العنوان والصيغة اللذان تضمنهما كتاب" نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرنسيس فوكوياما كثيراً من الابتسام في العالم، وكان بمنزلة وعي زائف عبر التاريخ. ويلفت المؤلف إلى أن من بين وجوه الوعي الزائف عبر التاريخ قصة الاكتشافات الجغرافية والسكانية قبل خمسة قرون حيث عمل الغرور الأوروبي على بناء وعي زائف مفاده أن "الاَخرين كانوا تائهين وأن المكتشفين الأوروبيين قد عثروا عليهم".

في العقدين الاَخرين أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي تغييرات جوهرية في حياة الإنسان اليومية وربما لم يتسنَّ لنا، على الأقل حتى الاَن، تقدير منافعها ولا مخاطرها على وعي الإنسان.

اتسعت شبكات علاقاتنا الاجتماعية الافتراضية وصار مئات الملايين من البشر يقضون نحو ربع أوقاتهم أمام أجهزة الحاسوب ومع الهواتف الذكية. بحيث بات لأي كان أن يتقمص أي دور يريد، بما في ذلك إخفاء هويته وممارسة سلوكيات رديئة.

وإلا ما معنى الانتقادات القاسية التي وجهها الفيلسوف الراحل والكاتب الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو إلى موقعي التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر"، في مقابلة صحافية قال فيها: "إن أدوات مثل (تويتر وفيسبوك) تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يجري إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".

تعليقات