لن يتمّ للمسلمين ولا لأمة من الأمم الأخرى نجاح ولا رقي إلا بالتضحية.
لكن، قبل البدء في الحديث عن كتاب “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” وعن هذه الأسباب وتحليلها، دعونا نتعرف على أمير البيان عن كثب.
أديب وشاعر ومفكر لبنانيّ، ولد في بيروت سنة 1869 وتوفي سنة 1946، وقد لقب بأمير البيان والقلم وعرف عنه انشغاله بالكتابة عن الوطن العربي، والوحدة العربية وأسباب السقوط، ومناهضة الاستعمار الأجنبي فتعرض على إثر ذلك للعديد من المضايقات والاضطهادات
أمير البيان شكيب أرسلان صاحب كتاب: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟
عاصر كل من محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، ومحمد رشيد رضا، إضافة إلى محمد البشير الإبراهيمي. وقد كان أحد الأوائل الذين دعوا إلى تشكيل جامعة عربية لكلّ الدّول على أمل وحدة الكلمة والرأي.
كتب أرسلان في العديد من الصحف والمجلاّتِ في مختلف أنحاء العالم، وصدرت له مؤلفات كثيرة من بينها: حاضر العالم الإسلامي، والحلل السندسية في الآثار الأندلسية.
وقد جاءت الرسالة التي بين أيدينا: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” كردٍّ على طلب من محمد رشيد رضا تبحث في أسباب الضعف والانحطاط عند المسلمين، وتنقل أسباب التقدم والرفاه عند غيرهم، ونشرت في مجلة المنار سنة 1930.
- قبل الانحطاط، كان هناك رقيّ.
ويعزو ذلك أيضًا وبشكل أساسيّ إلى الدين الإسلاميّ الذي جاء بتعاليم جديدة وأخلاق ومنطق عمل وحركة واضح المعالم، فاتُّبع بإخلاصٍ مع تضحيةٍ وتفانٍ فأدى بالأمة إلى الرقي.
ثم راح ينتقد ما آل إليه المسلمون اليوم من غيابٍ للفكرة والعمل خاصّةً، فهم كما يرى: مسلمون بالقول فقط، لا هم طبقوا ما يأمرهم به دينهم ولا هم تفرغوا لدنياهم.
وهذه النّقطة تندرج ضمن غياب العمل والحركة، التي إن نقصت سبّبت بدورها انحطاطَ الأمة، وهي ذاتها التي قال عنها المفكر مالك بن نبي: إنّ ما ينقص المسلم اليوم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلامًا مجرّدًا.
- الإنفاق بالمال في سبيل الإعمار.
فأول فرق بين المسلمين وغيرهم يكمن في الإنفاق وتسخير الأموال في سبيل النهضة، أو حتى نشر المبدأ والفكرة. وقد ضرب الكاتب كمثال على ذلك: حملات التنصير.
ورغم كون هذا المثال متعلقًا بالدّين، غير أنه يوضح كيف يستميت هؤلاء في الدفاع عن معتقداتهم ويبذلون ما بوسعهم لنشرها – رغم مدنيتهم وحضارتهم-:
الحملات التنصيرية لبلجيكا منذ سنة 1908 في بلاد الكونغو.
الحملات التبشيرية الفرنسية في الجزائر منذ احتلالها سنة 1830، إلى قدوم الأسقف لافيجري وتوليه حملة التبشير.
الحملات التنصيرية الهولندية في أندونسيا منذ 1873.
هذه الأمثلة مع طابعها الدينيّ ليست الوحيدة، لأنه لا يخفى على أيّ أحد منا مدى التطور والعمران المزدهر في بلدانهم، غير أنه دليل على أنّ الدفاع عن المبدأ ونشر القيم خاصةً يعتمد على الدعم الماديّ بشكل رئيسيّ، وهذا ما لم يفلح فيه المسلمون -رغم حث دينهم على الانفاق-!
وتخصص الدول المتطورة للتعليم والبحث العلمي مثلًا ملايين الدولارات سنويًا، بينما تخصّص معظم الدول العربية الإسلامية للبحث العلميّ أقل من 2.5% من المداخيل السنوية!
- الجهل والعلمُ الناقص.
في رائعته المقدمة، جعل مؤسّس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون الجهل والتعالم سببًا من الأسباب الفعلية لانهيار الدول، إذ يقول:
عندما تنهار الدّول يكثر المنجمون، والأفاقون والمتفقّهون، والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرةُ، ويتشوش الفكر.
كلّ هذه المظاهر التي نراها منتشرةً إلى اليوم بين أوساط المسلمين أدّت إلى انهيارهم. وهي ذاتها النقاط التي كانت منتشرةً سابقًا في العصور الوسطى بين الأوربيين، لمدة قرون وتسببت في تأخرهم وانهيارهم، مع تطور المسلمين فيما سمي بالعصر الذهبي، لكنّهم حينما تجاوزوها وتخلصوا منها صاروا مضرب المثل في التطور.
- فساد الأخلاق والحُكّام.
إنّ كلّ قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقيّ، وكل هزيمةٍ تبدأ بانحلالٍ أخلاقيّ.
فالمبادئ والقيم العليا والأخلاقيات العامة هي السبب وراء كلّ تطور: اتقان العمل، تقديس الوقت، احترام الآخرين، زرع القيم في المدارس، سنّ قوانين رادعة لمنتهكي هذه القيم، النظام، الدقة، الانضباط، التضحية، حب الوطن… وغيرها من الأمثلة التي نراها عند الشعوب المتقدمة هي التي جعلتهم في مقدمة الأمم.
فالكاتب يرى بأنّ المسلمين -ببعدهم عن تعاليم دينهم الذي ينصّ على كل هذه الأخلاق العالية- إنما تتمثل مشكلتهم في أزمة الأخلاق قبل كل شيء.
إنّما الأمم الأخلاقُ ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا — حافظ إبراهيم.
غير أنّه ربط كذلك بين سوء أخلاق الشعوب وسطوة حكامها، وانتشار الظلم فيهم، ولعلّ هذا ما قصده ابن خلدون عندما قال:
الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها.
فالأمر متعلق أيضًا بالحكام القائمين على رأس الدولة، والذين تؤدي تصرفاتهم، كالظلم والترف، والسطوة والسّرقة إلى سوء أخلاق الشعوب وعدم احترامها للقيم العليا، بل وإلى خراب العمران كما تنبّأ ابن خلدون.
- الخوف والجبن واليأس.
فالناظر للدول المتقدمة التي وصلت إلى ما وصلت إليه واستطاعت النهوض بعد كل الخراب الذي أصابها: كالمعجزة اليابانية التي تحدّت ظروف المناخ والموقع، وخراب الحرب العالمية الثانية، وألمانيا التي لحقت الركب رغم هزيمتها في الحرب، وحتّى دول شرق آسيا كماليزيا وأندونيسيا وسنغافورة، يجد أنّ كل ذلك كان نتيجة لشجاعة الإقدام وقوة الإرادة.
إنّ ملاك الأمر هو الإرادة، فمتى وُجدت الإرادةُ وجد الشيء المراد. — شكيب أرسلان.
وقد اقترح الكاتب فيما يخص ذلك بعض الحلول وكانت تقوم كلها على مبدأ المبادرة والشجاعة: مثل البدء في الصناعة الذاتية ولو باستيراد الفكرة من الخارج مثلما فعلت اليابان، إذ انتهجت مبدأ الاستعارة لا التبني من الدول المتقدمة واستعانت بتلك الأفكار الأساسية لبناء الطريق نحو الابتكار الذاتي.
قبل أن يحصل محمد مهاتير على منصب رئيس الوزراء في ماليزيا وتحديدًا سنة 1970، ألف كتابًا بعنوان معضلة الملايو يتوجه فيه إلى أبناء شعبه من الملايو ويلومهم على التقاعس، والخوف من الصينيين، وعدم تمثيل القيم الحقيقية للإسلام، ويتهمهم بالضعف ويحملهم مسؤولية التخلف الذي هيمن على البلاد.
ورغم أن الكتاب أحدث ضجة كبيرة حينها وتسبب في حبسه، غير أنّ معالجته لهذه المشكلة واقتراحه لحل لها في الكتاب هي التي جعلت من ماليزيا الآن في مصفّ الدول المتقدمة.
- الجمود والجحود.
فأمّا الجمود فيقصد به الكاتب طائفةً من المسلمين الذين لا يريدون التطور في أيّ مجال ويعتقدون بأنّ ذلك خروج عن تعاليم الدين وانسلاخ عن المبادئ، فيرفضون العلوم بحجّة أنها للكفار، في حين أنهم نسوا أن هاته العلوم في حد ذاتها كانت تدرس بصفة نظامية إبان حكم الدول كالعباسية والأموية، وفيهم يقول الكاتب:
هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلمين، فظهرت فيهم فئةٌ يلقبون بالدراويش، ليس لهم شغل ولا عمل وليسوا في الواقع إلَّا أعضاء مشلولة في جسم المجتمع الإسلاميّ.
وأما الجحود فيقصد بهم طائفة تريد من المسلمين الانسلاخ من مبادئهم كلها وتقليد الغرب في كل شيء، فهو يرى بأن هذا التقليد الأعمى هو في حد ذاته ضعف وغلبة للطرف الآخر، كما قال ابن خلدون -مرّةً أخرى-:المغلوبُ مولعٌ دومًا بتقليد الغالب.
وضرب أمثلة على تمسك هذه الأمم بمبادئها ودينها رغم تطورها، إذ يعتقد الكاتب أنّ الأديان ليست سببًا للتأخر بدليل:
تطور اليابانيين الكبير مع حفاظهم على معتقداتهم كالديانتين الشنتوية والبوذية وثقافة زين — Zen.
- أزمة مسلمين لا أزمة إسلام.
كما أجاب في نهاية رسالته على سؤال: هل هناك مدنية في الإسلام؟ من خلال ذكره لجميع أمثلة العمران والتشييد للمنازل والمساجد والمدارس والجامعات والفنادق وغيرها سواء في الأندلس أو في المشرق والمغرب الإسلامي.
فالأمر هنا لا يتعلق بالدين بقدر ما يتعلق بسوء فهم معتنقيه له وعدم تطبيقهم لتعاليمه. وقد ورد في الأثر: لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله.
تعليقات
إرسال تعليق