لويس ولبرت، وهو مؤلف الكتاب الذي سنتكلم عنه، والذي كان هو الآخر مصابًا باكتئاب حاد، يقول عن هذه التجربة: "كانت تلك أسوأ تجربة في حياتي، وربما أسوأ من مأساة وفاة زوجتي بمرض السرطان، وكم يخجلني الاعتراف أن تجربتي مع الاكتئاب كانت أسوأ من مشاهدة زوجتي تموت بالسرطان، لكنها الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، لقد كنت في حالة لا تشبه أي حالة مررت بها من قبل، فليست تلك حالة من الخمول أو الهبوط العام، ولم أكن محبطًا بالمعنى الشائع للكلمة، بل كنت مريضًا بالفعل."
الاكتئاب الحاد تجربة من المستحيل أن يتخيلها إلا من مر بها، وكثيرون منا لا يستطيعون فهم المرض العقلي أو النفسي لأن سببه غير ملموس مثل المرض الجسدي، وهذا ما يحاول الكتاب إفهامه لنا، ترى ما الذي قد يوصل شخصًا مثل أندرو من هذه الحالة إلى تلك؟ ولماذا يصاب أشخاص دون غيرهم بالاكتئاب؟ وما الفرق بين الاكتئاب والحزن العادي؟ وهل أسبابه نفسية أم عضوية؟ وهل يمكن علاج الاكتئاب؟
- هل الاكتئاب منتشر؟
أضخم دراسة أجريت في الولايات المتحدة بينت أن شخصًا من كل 6 أشخاص معرض للإصابة بالاكتئاب الحاد، وشخصًا من كل عشرة يعاني من أعراض اكتئاب خفيف، والأرقام مرشحة للزيادة بما أن الحروب والأوبئة تزيد في العالم!
هل تشعر أن الرقم مبالغ فيه؟ أو تتساءل لماذا لا يظهر على هؤلاء الأشخاص أنهم مكتئبون؟ سأخبرك، لأن كثيرون منهم يظهر الاكتئاب لديهم في شكل أعراض جسدية لا نفسية، مثل الآلام المزمنة أو التهاب الأعصاب، ويسمى هذا الأمر "الجسدنة" أي تأثر الجسم عند التعب النفسي، أي أنه "اكتئاب مقنّع" خفي غير ظاهر إما لأن الشخص خائف من الوصمة المجتمعية للمرض النفسي فيقال عليه "مريض نفسي"، أو لأن الشخص نفسه يجهل أن معاناته سببها اكتئاب حاد.
- تعريف الاكتئاب
- تشخيص الاكتئاب
الدليل الإحصائي والتشخيصي للمرض النفسي DSM-IV الذي تصدره الجمعية الأمريكية للطب النفسي يقول إن الشخص يشخص باكتئاب حاد لو كان عنده خمسة أعراض على الأقل من الأعراض التالية بشكل مستمر لمدة أسبوعين متواصلين:
- يشعر بالتعاسة والكآبة طوال الوقت.
- وعنده إرهاق شديد.
- بالإضافة إلى تغيرات ملحوظة في الشهية، وفي الوزن سواء زاد أو نقص.
- تغيرات في النوم سواء النوم الكثير، أو الأرق.
- فقدان التركيز.
- والشعور بكراهية النفس مع شعور شديد بالذنب.
- فقدان القدرة على الاستمتاع بأي شيء حتى أكثر الأشياء التي كان يحبها من قبل.
- بالإضافة إلى الأفكار الانتحارية، والتفكير في الموت.
- التفسيرات النفسية للاكتئاب
1. دور الفقد في الاكتئاب سواء بوفاة شخص عزيز، أو الانفصال عن شريك الحياة، أو حتى فقد تقدير الذات والشعور بالدونية.
ولكن انتبه.. ليس بمجرد شعورك ببعض من هذه الأعراض تعتبر أن عندك اكتئابًا حادًّا بتشخيص ذاتي أو من أحد الأصدقاء.. إن وجدت تشابهًا بين هذا التشخيص وحالتك فهذا مؤشر إلى أنك تحتاج إلى زيارة مختص فورًا، حتى تُشخَّص بصورة صحيحة، إن كان ما لديك اكتئاب أم لا؟ ولو كان اكتئابًا فما درجته، حاد أم متوسط أم خفيف؟ وهكذا.
لو كان اكتئابًا حادًّا فإنه يستمر غالبًا 6 شهور، ويمكن أن يزيد لو لم يعالج، ولو استمر الاكتئاب لمدة سنتين فإنه يصنف على أنه اكتئاب مزمن، وأغلب المرضى يعودون إلى طبيعتهم بعد شفائهم، ولكن للأسف 50% منهم معرّضون للإصابة بالاكتئاب مرة أخرى!
-هل يمكنك إخباري، لماذا يصاب بعض الناس دون غيرهم بالاكتئاب؟
--مؤكد أنهم بعيدون عن الله.
أثبتت الدراسات بالفعل أن الجانب الروحاني يكون عاملًا مهمًّا جدًّا في الوقاية من الاكتئاب وفي عملية التعافي أيضًا، ولكن لو أصيب الشخص باكتئاب فعلًا فلا يصح إخباره بأن الحل أن يقترب من الله فقط، لأنه سيكون مثل نصح مريض سرطان بعدم العلاج والقرب من الله فقط، ليس فيها منطق، صحيح؟
أكمل وستفهمني أكثر في النهاية، ولكن أخبرني ما الأسباب الأخرى التي خطرت في بالك؟
1- المواقف الصعبة مثلًا، أو مشكلات كبيرة في طفولته ؟
2- تجارب الحياة الصعبة تكون محفزة للاكتئاب سواء في حياة البالغ أو من تجارب طفولته، والشيء المشترك بين النظريات النفسية المختلفة أنها ركزت على أمرين:
تجارب الطفولة التي تحفز الإصابة بالاكتئاب والأمراض العقلية عامة، مثل تجربة أجريت على عدد من الأطفال ومن ضمنها مثلًا أن وجدوا أن الأطفال الذين كانت أمهاتهم تتجاهل احتياجاتهم تمامًا، كان الطفل يتوقف عن التعبير عن احتياجاته كي لا يشعر بخيبة الأمل، لأنه يعرف أنه سيتم تجاهله، هؤلاء يكونون معرّضين لاكتئاب نقد ذواتهم والشعور بأنهم لا يستحقون شيئًا.
ومن الأسباب المهمة أيضًا
غياب الدعم العائلي والاجتماعي للشخص، إذ تكون الأسرة مفككة مثلًا.
وهناك ملاحظة مهمة أن كل هذه الأمور التي ذكرت يمكن أن تحدث مع شخص ولا يصاب باكتئاب، فما السر؟
طبيعة الأفكار التي تصاحب الشخص المكتئب.
آرون بيك قدم لنا "النظرية المعرفية" التي تتعامل مع الأفكار السلبية التي تسيطر على عقل المريض، ولنتخيلها على شكل مثلث: ضلع هو نظرة الشخص لنفسه وضلع آخر لمعتقداته عن العالم والثالث أفكاره عن المستقبل. المكتئب يرى نفسه مليء بالعيوب وغير مستحق، ويرى العالم مليء بالصعوبات، والمستقبل ليس له وجود، لأنه يشعر أنه لن يستطيع الخروج من الحالة التي هو فيها للأبد، هذه الأفكار الواعية تؤثر في انفعالات المريض، والمشكلة لا تكون في الأحداث التي تحدث معه بقدر ما تكون في تفسيره السلبي لها، لأن لديه صورة مشوهة عن نفسه، ويركز على التفاصيل السلبية، ويستنتج الأسوأ: "فشلت مرة وسأفشل دائمًا"، وتجده يعمم المواقف السيئة: "فلان لا يحبني، إذًا لا أحد في الكون يحبني"، وهكذا، وهذا بالطبع ليس بيده، هو بالفعل لا يستطيع أن يتحرر من هذه الأفكار دون مساعدة.
والفارق الثاني الذي يعرفنا لماذا يمكنني أن أكتئب وأنت لا، على الرغم من أننا مررنا بنفس المواقف، وهو أمر نغفل عنه أو لا نعرفه.. 5-الجينات يا جماعة!
- التفسير البيولوجي للاكتئاب
لكن التفسيرات البيولوجية تخبرنا أن كل أفكارنا كبشر تكون نتيجة لنشاط محدد تؤديه الخلايا العصبية في الدماغ، التي تحدد الجينات طريقة عملها، وأن الاكتئاب يحدث نتيجة تفاعل داخلي بين مناطق محددة في الدماغ مثل اللوزة المسؤولة عن الانفعالات، ومناطق أخرى مسؤولة عن الجانب المعرفي، وهناك تفسيرات تقول إن هذا يحدث نتيجة عطل في ناقلات عصبية محددة، ومضادات الاكتئاب تكون وظيفتها جعل هذه الناقلات تصل ويتم استقبالها فلا يحدث اكتئاب.
وبهذا نفهم أن كل التجارب الصعبة والضغوطات تحفز الاكتئاب فعلًا، لكن بنسبة أكبر عند الأشخاص ذوي الاستعداد الجيني للاكتئاب من الأساس، والفاقدين للدعم العائلي والمجتمعي.
- ما علاج الاكتئاب؟
فلدينا العلاج بالأدوية ومضادات الاكتئاب، التي تعالج الجزء البيولوجي، وعلى عكس المتعارف عليه فكل مضادات الاكتئاب لا تسبب الإدمان، لكن الانسحاب منها يحتاج إلى وقت وتدرج، ولا بد أن يكون تحت إشراف طبيب للتعامل مع أعراضها الجانبية، ولا بد أن يستمر العلاج لمدة لا تقل عن 6 أشهر.
أما العلاج النفسي فتوجد أكثر من 200 طريقة معروفة للعلاج النفسي، من أشهرها الطرق المعتمدة على نظريات التحليل النفسي التي تهتم بالبحث في "لا وعي" المريض وتجارب طفولته وتحتاج إلى وقت طويل للعلاج، لكن العلاج على المدى القصير من طرقه العلاج السلوكي المعرفي، الذي يركز على معالجة وتغيير طريقة تفكير المريض، وتعليمه طرقًا للتخلص من الأفكار السلبية تجاه نفسه والعالم والمستقبل، ويقلل تأثير التجارب السيئة في الماضي، ويكون تفاعليًّا بين المريض والمعالج، وأحيانا يدمج المعالج أكثر من طريقة للعلاج حسب حالة المريض، وعمومًا فإن أغلب المرضى يحتاجون إلى متوسط 13 أسبوع لكي يتخلصوا من أعراض الاكتئاب.
نأتي لنقطة مهمة وخطيرة وهي علاقة الانتحار بالاكتئاب
التفكير في الانتحار من أبرز علامات الاكتئاب الحاد، ومن بين كل 10 مصابين بالاكتئاب الحاد واحد يقدم على الانتحار.. وعلى الرغم من أن عدد النساء ضعف عدد الرجال في الإصابة بالاكتئاب، فإن نسب الانتحار عند الرجال أعلى بكثير من النساء.
في الولايات المتحدة فقط توجد 32 ألف حالة انتحار سنويًّا، ولو عرفنا أنه في مقابل كل محاولة انتحار كاملة يوجد نحو 100 محاولة فشلت، فالرقم مهول جدًّا، وهذا يؤثر في المجتمع كله، يكفي أن تتخيل العدد المهول للأطفال الذين مروا بتجربة انتحار أحد أقاربهم، ثلثا الذين أقدموا على الانتحار عبروا عن رغبتهم أمام شخص ما، وبعضهم استشار طبيبه النفسي، ومرضى الاكتئاب عمومًا يطلبون المساعدة ويظهرون الشكوى بشكل كبير.
وهذا يجعلنا نأخذ شكوى المقربين لنا باهتمام كبير ودون أي استخفاف لأن الاكتئاب الحاد خطير فعلًا، وفي نفس الوقت ليس به ما يدعو للخجل، ولا يصح أن يدفع المحيطون بالمريض ليواجه مرضه وحده ولا أن يقولوا له "أنت من تفعل هذا في نفسك"، أو يقللوا مما يشعر به، لكن يوجهوه لمقابلة متخصص فورًا ويدعموه في رحلة تعافيه، ويزيدوا معلوماتهم عن المرض والتعامل معه، ويمكن أن تزيد معلوماتك عن الاكتئاب عمومًا واكتئاب المراهقين أيضًا من خلال المعلومات المتاحة على الإنترنت.
وهناك نقطة مهمة أن من يتعاملون عن قرب مع الشخص المكتئب، وأسرته خصوصًا يتأثرون بشكل سلبي كبير جدًّا، حتى إن ربع المتزوجين ينفصلون، لذا من المهم أن يساعد المعالجون الأسرة كلها ويشاركوهم في خطة العلاج ويخبروهم كيف يتعاملون بطريقة صحيحة مع المريض، وكيف يقللون تأثرهم بحالته.
نرجو أن تتمتعوا بحياة هادئة ومستقرة وبعيدة عن شبح الاكتئاب.
تعليقات
إرسال تعليق